مقال العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية: التوحيد العلمي والعملي 6 الشيخ عبد الحميد بن محمد ابن باديس

العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية: التوحيد العلمي والعملي 6
الأحد 11 سبتمبر 2016    الموافق لـ : 08 ذي الحجة 1437

«التصفيف الخامس والثلاثون: التوحيد العلمي والعملي (٦)»

للشيخ عبد الحميد بن باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس -حفظه الله-

الرَّابِعُ وَالخَمْسُونَ: العَبْدُ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللهِ

وَمِنْ تَوْحِيدِهِ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ: اعْتِقَادُ أَنَّ العَبْدَ لاَ يَخْرُجُ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ عَنْ مَشِيئَةِ اللهِ، غَيْرَ أَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا يَجِدُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَشِيئَةً يَجِدُهَا كَذَلِكَ فِيمَا يُمْكِنُهُ مِنْ أَفْعَالِهِ كَانَ بِهِمَا مُكَلَّفًا، ثُمَّ هُوَ لاَ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ مَشِيئَةِ اللهِ(١) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾(٢)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(٣)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾(٤)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾(٥)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾(٦)، وَلِقَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(٧).



(١) قد تقدَّم كلام المصنِّف -رحمه الله- في تقرير مذهب أهل السنَّة والجماعة في أفعال العباد، حيث يرَوْنَ أنها جميعَها -طاعاتٍ أو معاصيَ- مخلوقةٌ لله تعالى، ومقدَّرةٌ على العباد، ومَقْضيَّةٌ عليهم قبل وقوعها منهم، وعلى هذا دَرَج أعلامُ الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار وغيرهم مِن الأئمَّة الأخيار. [انظر: «الاعتقاد» للبيهقي (٨٧)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٨/ ٦٣-٦٤، ٤٠٦)]. وليس معنى ذلك أنَّ العبد مسلوب الإرادة والمشيئة، بل يعتقدون أنَّ فِعْلَ العبد فعلُه حقيقةً لا مجازًا، وله قدرةٌ ومشيئةٌ على فعله باختياره، وأعمالُه كسبٌ له يجازى على حَسَنِها ويعاقَب على سيِّئها، فما قام به العبد فهو فعلُه وكسبُه وحركاته وسكناته، والذي قام بالله تعالى علمُه وقدرته ومشيئته وتكوينه، فالفعل فعلُ العبد، وهو مخلوقٌ مفعولٌ للربِّ عزَّ وجلَّ، لكنَّ مشيئة العبد غيرُ مُطْلَقةٍ، بل هي مقيَّدةٌ بمشيئة الله تعالى وتابعةٌ لها، فلا يخرج شيءٌ عن مشيئة الله وإرادته النافذة، قال الطحاويُّ -رحمه الله- في [«العقيدة الطحاوية» (١٥٣)]: «وكلُّ شيءٍ يجري بتقديره ومشيئتِه، ومشيئتُه تنفذ، لا مشيئةَ للعباد إلاَّ ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن»، وقال في موضعٍ آخر (٥٠٢): «وكلُّ شيءٍ يجري بمشيئة الله تعالى وعلمِه وقضائه وقدره، غلبت مشيئته المشيئاتِ كلَّها، وعكست إرادتُه الإراداتِ كلَّها، وغلب قضاؤه الحيلَ كلَّها، يفعل ما يشاء، وهو غير ظالمٍ أبدًا، ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣]»، وقال ابن تيمية -رحمه الله- في [«مجموع الفتاوى» (٨/ ١١٧)]: «وممَّا ينبغي أن يُعلم أنَّ مذهب سلف الأمَّة -مع قولهم: الله خالق كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنه هو الذي خَلَق العبدَ هلوعًا، إذا مسَّه الشرُّ جزوعًا، وإذا مسَّه الخير منوعًا، ونحو ذلك- أنَّ العبد فاعلٌ حقيقةً، وله مشيئةٌ وقدرةٌ، قال تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٨-٢٩]، وقال تعالى ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً. وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ [الإنسان: ٢٩-٣٠]، وقال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [المدَّثِّر: ٥٤-٥٦]».

وعليه، فليس كلُّ مَن أراد عملاً صالحًا أو نافعًا يوفَّق له، ولا مَن أراد عملاً سيِّئًا أو ضارًّا يُمكَّن منه، فاختيارُه غيرُ خارجٍ عن مشيئة الله وقدرته النافذة، قال تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ﴾ [الأعراف: ١٨٨]، فنَفَتِ الآية أن يملك العبد كسبًا ينفعه أو يضرُّه إلاَّ بمشيئة الله وقدرته، ولهذا نهى الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقول: إنه سيفعل شيئًا في المستقبل إلاَّ معلِّقًا ذلك بمشيئته تعالى، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ [الكهف: ٢٣]، قال الشنقيطيُّ -رحمه الله- في «أضواء البيان» (٤/ ٧٦): «فإذا عرفتَ معنى هذه الآية الكريمة وسببَ نزولها، وأنَّ الله عاتَب نبيَّه فيها على عدم قوله: «إن شاء الله» لمَّا قال لهم: «سأخبركم غدًا»؛ فاعلَمْ أنه دلَّت آيةٌ أخرى بضميمةِ بيان السنَّة لها على أنَّ الله عاتب نبيَّه سليمان على عدم قوله: «إن شاء الله» كما عاتب نبيَّه في هذه الآية على ذلك، بل فتنة سليمان بذلك كانت أشدَّ، فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً -وفي روايةٍ: تِسْعِينَ امْرَأَةً، وفي روايةٍ: مِائَةِ امْرَأَةٍ- تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ»، فَقِيلَ لَهُ -وفي روايةٍ: قَالَ لَهُ المَلَكُ-: «قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ» فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ»، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: «إِنْ شَاءَ اللهُ» لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ»، وفي روايةٍ: «وَلَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» [أخرجه البخاري في «أحاديث الأنبياء» (٦/ ٤٥٨) باب قول الله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: ٣٠]، ومسلم في «الأيمان» (١١/ ١١٨) باب الاستثناء، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، فإذا علمتَ هذا فاعلَمْ أنَّ هذا الحديث الصحيح بيَّن معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا﴾ الآية [ص: ٣٤]، وأنَّ فتنة سليمان كانت بسبب تركِه قولَه: «إن شاء الله»، وأنه لم يَلد مِن تلك النساء إلاَّ واحدةٌ نصفَ إنسانٍ، وأنَّ ذلك الجسد الذي هو نصف إنسانٍ هو الذي أُلقي على كرسيِّه بعد موته».

وممَّا سبق ذكرُه يتبيَّن أنْ لا مشيئة للعبد ولا اختيار إلاَّ بعد مشيئة الله تعالى، لأنَّ العبد يفتقر إلى ربِّه في جميع أمور الدين والدنيا مِن جلب المنافع وتحصيل المصالح ودفعِ المفاسد والمضارِّ، فلا يملك العبد لنفسه شيئًا مِن هذا كلِّه، ولا يتحقَّق له شيءٌ ممَّا يريده إلاَّ بمشية الله وإرادته النافذة، ويؤكِّد هذا المعنى -أيضًا- قولُه تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: ١٣]، وقولُه تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: ١٢٥]، وقولُه تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ [المائدة: ٤١]، وآيات القرآن في معنى هذه الآيات كثيرةٌ، ومِن السنَّة حديثُ أبي ذرٍّ رضي الله عنه فيما يرويه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن ربِّه، وفيه قولُ الله عزَّ وجلَّ: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ..» [أخرجه مسلم في «البرِّ والصلة والآداب» (١٦/ ١٣١) باب تحريم الظلم].

(٢) الآية ٣٠ من سورة الإنسان، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله- في [«تفسيره» (٤/ ٤٥٨)]: «﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ أي: لا يقدر أحدٌ أن يهديَ نفسه، ولا يدخلَ في الإيمان، ولا يجرَّ لنفسه نفعًا، إلاَّ أن يشاء الله. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي: عليمٌ بمن يستحقُّ الهدايةَ فييسِّرها له ويقيِّض له أسبابَها، ومن يستحقُّ الغوايةَ فيصرفه عن الهدى. وله الحكمة البالغة والحجَّة الدامغة، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، ثمَّ قال: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الإنسان: ٣١]، أي: يهدي من يشاء ويُضِلُّ من يشاء، فمن يهده فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هاديَ له».

(٣) الآية ٢٩ من سورة التكوير. قال ابن كثيرٍ -رحمه الله- في [«تفسيره» (٤/ ٤٨٠)] شارحًا معنى الآية: «ليست المشيئة موكولةً إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضلَّ، بل ذلك كلُّه تابعٌ لمشيئة الله تعالى ربِّ العالمين، قال سفيان الثوريُّ عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى: لمَّا نزلت هذه الآية: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: ٢٨]؛ قال أبو جهلٍ: «الأمر إلينا: إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم»، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٩]».

ففي الآيتين دليلٌ على أنَّ الله أعْلَمَ خَلْقَه أنَّ المشيئة له دون خلقه، وأنَّ مشيئتهم تبعٌ لمشيئة الله النافذة، وفي هذا المعنى قال البيهقيُّ -رحمه الله- في [«الاعتقاد» (١٢٨-١٢٩)]: «قال الشافعيُّ: إنَّ مشيئة العباد هي إلى الله تعالى، ولا يشاءون إلاَّ أن يشاء الله ربُّ العالمين، وإنَّ أعمال الناس خلقٌ مِن الله فعلٌ للعباد، وإنَّ القدر خيرَه وشرَّه من الله عزَّ وجلَّ».

(٤) جزءٌ من الآية ١١١ من سورة الأنعام.

فالآية تدلُّ على أنَّ الهداية إلى الله لا إليهم، يهدي من يشاء ويُضِلُّ من يشاء، فإنَّ ما شاء اللهُ كان وما لم يشأ لم يكن، ومن حيث المعنى فإنَّ هذه الآية مثلُ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ [يونس: ٩٦-٩٧]، قال الشوكانيُّ -رحمه الله- في [«فتح القدير» (٢/ ٤٧٤)]: «والمعنى: أنه حقَّ عليهم قضاءُ الله وقدَرُه: بأنهم يُصِرُّون على الكفر ويموتون عليه، لا يقع منهم الإيمان بحالٍ من الأحوال وإن وقع منهم ما صورتُه صورةُ الإيمان، كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب فهو في حكم العدم».

(٥) جزءٌ من الآية ١١٢ من سورة الأنعام.

فالضمير في قوله تعالى: ﴿مَا فَعَلُوهُ﴾ يرجع إلى ما ذُكر قبله مِن الأمور التي ابتُلي بها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في زمنه وزمن الأنبياء مِن قبله، وجَرَتْ مِن أعداء الله الكفَّار: شياطين الإنس والجنِّ، يوسوس بعضُهم لبعضٍ بإلقاء القول المزيَّن المزوَّق الذي يغترُّ سامعُه مِن الجَهَلة بأمره، فأخبر الله تعالى أنه لو شاء عدمَ وقوع العداوة والإيحاء ما فعلوه، لأنَّ مشيئة الله تغلب المشيئاتِ كلَّها، لكنَّ الله شاء أن يكون لكلِّ نبيٍّ عدوٌّ مِن هؤلاء قَدَرًا وقضاءً. [انظر: «تفسير ابن كثير» (٢/ ١٦٧)، «فتح القدير» للشوكاني (٢/ ١٥٣)].

(٦) جزءٌ من الآية ٩٩ من سورة يونس.

فالخطاب في الآية موجَّهٌ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا كان حريصًا على إيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى بأنه سبحانه لو شاء لَأَذِنَ لأهل الأرض كلِّهم في الإيمان، ولصاروا جميعًا مجتمعين عليه لا يتفرَّقون فيه ولا يختلفون، لكنَّه سبحانه لم يَشَأْ ذلك لكونه مخالفًا للحكمة البالغة والمصلحة الراجحة التي أرادها الله، وهو الفعَّال لِما يريد، والعادل في هداية من شاء وإضلالِ من شاء، لعلمه وحكمته وعدله، قال تعالى: ﴿مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: ٣٩].

(٧) جزءٌ من الآية ٢٩ من سورة الكهف.

قال القرطبيُّ -رحمه الله- في [«تفسيره» (١٠/ ٣٩٣)] في معنى الآية: «قل يا محمُّد لهؤلاء الذين أغفَلْنا قلوبَهم عن ذكرنا: أيُّها الناس! من ربُّكم الحقُّ؟ فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء فيؤمن، ويُضِلُّ من يشاء فيكفر، ليس إليَّ مِن ذلك شيءٌ، فالله يؤتي الحقَّ من يشاء وإن كان ضعيفًا، ويحرمه من يشاء وإن كان قويًّا غنيًّا، ولستُ بطارد المؤمنين لهواكم، فإن شئتم فآمِنوا، وإن شئتم فاكفروا. وليس هذا بترخيصٍ وتخييرٍ بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيدٌ وتهديدٌ، أي: إن كفرتم فقد أعدَّ لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنَّة».

والمصنِّف -رحمه الله- استدلَّ بهذه الآية على أنَّ مشيئة العبد غيرُ خارجةٍ عن مشيئة الله وتقديره، بل هي تابعةٌ لمشيئة الله النافذة، وقد نُقل عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما -في معنى الآية- أنه قال: «مَنْ شَاءَ اللهُ لَهُ الإِيمَانَ آمَنَ، وَمَنْ شَاءَ اللهُ لَهُ الكُفْرَ كَفَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٩]» [انظر: «تفسير الطبري» (١٥/ ٢٣٧)، «الاعتقاد للبيهقي» (٨٦)، «تفسير البغوي» (٣/ ١٥٩)، «فتح القدير» للشوكاني (٣/ ٢٨٤)].

فالحاصل أنَّ مِن مقتضى توحيد الله في ربوبيته: الإيمانَ بأنَّ الله خالق كلِّ شيءٍ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّ أفعال العبد مِن جملة مخلوقاته، والعبد فاعلٌ حقيقةً، وهو مريدٌ له ومختارٌ حقيقةً، وأنَّ إضافة فعلِه إليه إضافةُ حقٍّ، وأنَّ جميع تصرُّفاته لا تخرج عن مشيئة الله وقدرته، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.