مقال أحكام الناسخ والمنسوخ الشيخ محمد علي فركوس

أحكام الناسخ والمنسوخ
الأحد 11 سبتمبر 2016    الموافق لـ : 08 ذي الحجة 1437

الجزء السادس (2)

 

باب
أحكام الناسخ والمنسوخ

[ في حقيقة النسخ ]

 

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 255]:

«النَّسْخُ: هُوَ إِزَالَةُ الحُكْمِ الثَّابتِ بالشَّرْعِ المُتَقَدِّمِ بشَرْعٍ مُتَأَخِرٍ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاَهُ لَكَانَ ثَابتًا، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسِخَ وَالمَنْسُوخَ لاَبُدَ أَنْ يَكُونَا حُكْمَيْنِ شَرْعِيَيْنِ».

[م] اختار المصنِّف قولَ القائلين بأنَّ النسخ رفع وإزالة الحكم، أي: قطع لدوام الحكم فجأة لا لبيان انتهاء مُدَّته، وهو الصحيح؛ لأنّ انتهاء مُدّة الحكم لا يُسمَّى نسخًا، والخلاف لفظيٌّ لحصول الاتفاق على انعدام الحكم الأوّل بسبب انعدام متعلّقه وهو الدليل لا لذات الحكم.

واشترط المصنِّف في الحكم أن يكون ثابتًا؛ لأنَّ ما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه، وقيَّده بشرع متأخِّر للاحتراز من زوال الحكم بدون شرع كالموت أو الجنون؛ لأنَّ الرفع عنهما لم يكن بشرع، واشتُرط المتأخّر في الشرع ليكون هو الناسخ للحكم المنسوخ لإخراج المخصّصات المتصلة كالشرط والغاية والاستثناء فهي رافعة للحكم الشرعي بخطاب شرعي لكن لا تُسمَّى نسخًا؛ لأنّ الخطاب غير متأخّر عنها بل متّصل بها.

هذا، والحكم الأوَّل هو المنسوخ فإنه يشترط ‑من حيث مُدَّتُه‑ أن تكون مطلقة غير معلومة فيرد فيه الناسخ من غير انتظار من المكلَّفين، ويُشترط فيه ‑من حيث ثبوتُه‑ أن يكون ثابتًا بخطاب مُتقدِّم، أمَّا الحكم الثابت بدليل العقل أو بالبراءة فلا يُسمَّى نسخًا؛ لأنه لم يثبت بخطاب مُتقدِّم وإنَّما ثبت بأصل براءة الذِّمَّة.

والحكم الثاني هو الناسخ ويشترط أن يكون خطابًا شرعيًّا مُنفصلاً عن المنسوخ ومُتأخِّرًا عنه، فارتفاع الحكم بالموت أو الجنون أو بأي عارض من عوارض الأهلية فليس بنسخ، واقتران الحكم ببعضه بعضًا كالشرط والغاية والاستثناء ‑كما تقدَّم‑ لا يُسمَّى نسخًا وإنَّما هو تخصيص(١).

• وقول المصنِّف بعد ذلك: «أَوِ السَّاقِطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَامْتِثَالِ مُوجِبهِ فَإِنَّهُ لاَ يُسَمَّى نَسْخًا».

[م] أي أنَّ الساقط بعد ثبوته وانتهاء مُدَّته لا يُسمَّى نسخًا؛ لأنَّ النسخَ هو إزالة الحكم على وجهٍ لولا هذا الرفع لبقي الحكم ثابتًا ومُستمرًّا يعمل به، أمّا بعد انتهاء مُدَّته فلا يعمل به، كالإجارة من حيث انقضاءُ أجلها يكون ارتفاع حكمها بسبب انقضاء أجلها وانتهاءِ المدّة المعلومة لكلا المتعاقدين، بخلاف ما إذا حلت قوة قاهرة أو وجد سبب طارئ على العقد فإنَّه يؤدِّي إلى فسخها قبل انتهاء مُدَّتها كالهدم مثلاً.

 

فـصل
[ في حكم نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة  ]

 

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 256]:

«..إِذَا نَقَصَ بَعْضُ الجُمْلَةِ أَوْ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا فَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بنَسْخٍ، وَبهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: "هُوَ نَسْخٌ"».

[م] في تحرير محلِّ النِّزاع فإنَّه لا خلاف بين أهل العلم في أنَّ النقصان من العبادة نسخ لما أسقط منها لاعتباره واجبًا ثمَّ أزيل وجوبه، كما لا نزاع بينهم في أنَّ ما لا يتوقَّف عليه صحَّة العبادة لا يكون نسخًا لها(٢)، ولكن الخلاف في نسخ ما يتوقَّف عليه صحَّة العبادة سواء كان جزءًا لها كالركن أو خارجًا عنها كالشرط، وفي هذه المسألة أقوال، وما عليه الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وكثير من الفقهاء: أنَّ نسخه لا يكون نسخًا للعبادة وإنَّما هو تخصيص للعموم، وبه قال الفخر الرازي والآمدي وهو مذهب الكرخي وأبي الحسين البصري، وذهب بعض الحنفية إلى: أنَّ نسخه يكون نسخًا للعبادة، وفصل آخرون بين الشرط المنفصل عن الماهية فلا يكون نسخه نسخًا للعبادة وبين الجزء كالركوع فإنَّ نسخه نسخ للعبادة، وهو قول القاضي عبد الجبار وبه قال الغزالي وصحَّحه القرطبي(٣)(٤)، والمصنِّف اختار تفصيل الباقلاني.

والظاهر أنَّ مذهب الجمهور هو الصحيح في عدم نسخ العبادة فيما تتوقَّف عليه صحَّتها؛ لأنَّ الرفع والإزالة لم تتناول إلاَّ الجزء أو الشرط ويبقى الباقي على حاله من عدم التغيير، وبقياس النسخ على التخصيص حيث إنَّ التخصيص لا يخرج جميع أفراد العموم، ولوقوع نسخ الشرط والجزء من الشارع ولم تنسخ تلك العبادة بالكلية، مثل: استقبال بيت المقدس الذي هو شرط عند الجمهور في صحَّة الصلاة وقد نسخ هذا الشرط ولم تنسخ تلك الصلاة، وكذلك نسخ عشر رضعات بخمس، وقد نسخ هذا الجزء ولم ينسخ الرضاع بالكلية.

 

[ في اختلاف كون الزيادة على النص نسخًا ]

 

• وفي [ص 257] قال الباجي -رحمه الله-:

«وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِ، قَالَ أَصْحَابُ أَبي حَنِيفَةَ: «هُوَ نَسْخُ» وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: "لَيْسَتْ بنَسْخٍ"».

[م] فهذه المسألة إنما تتعلق بالأحكام التي هي الأمر والنهي والإباحة وتوابعها(٥)، وفي تحرير محلِّ النِّزاع فإنَّه لا خلاف في أنَّ الزيادة على النَّص إن كانت من غير جنس المزيد عليه، وكانت مستقلَّة كفرض الزكاة على الصلاة فليست نسخًا(٦)، لكن الخلاف في الزيادة على النصَّ يظهر من جهتين:

الأولى: إن كانت الزيادة من جنس المزيد عليه ومستقلَّة عنه كزيادة صلاة من الصلوات الخمس، فهذا ليس بنسخ على قول الجمهور خلافًا لأهل العراق، ومذهب الجمهور أقوى؛ لأنَّ تلك الزيادة لم ترفع حُكمًا شرعيًّا فانتفت حقيقة النسخ، وبقي المزيد عليه بعد الزيادة مُحكمًا.

الثانية: إن كانت الزيادة من جنس المزيد عليه وغير مستقلّة عنه كزيادة جزء مثل: زيادة التغريب على الجَلْدِ، أو زيادة شرط كاشتراط النية في الطهارة، واشتراط الطهارة للطواف، فهذا لا يكون نسخًا مُطلقًا على رأي الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وبعض المعتزلة خلافًا للأحناف، ومنهم من فصل في هذه المسألة، ورأى أنَّ الزيادة إذا غيّرت حكم المزيد عليه فجعلته غير مجزئ بعد أن كان مجزئًا وجب أن يكون نسخًا، وإن كانت الزيادة لا تغيِّر حكم المزيد ولا تخرجه من الإجزاء إلى ضِدِّه لم يكن نسخًا، وهو مذهب أبي بكر الباقلاني وابن القَصَّار وارتضاه الباجي. وقريب من هذا الرأي قول القائلين أنَّ الزيادة إن أثبتت حُكمًا نفاه النصّ أو نَفَتْ حُكمًا أثبته النصّ فهي نسخ له، وإن كانت الزيادة لم تتعرّض للنصّ بنفي أو إثبات بل زادت عليه شيئًا سكت عنه النصّ فلا يجوز أن يكون نسخًا، وهو الصحيح؛ لأنَّ الزيادةَ رفعت البراءةَ الأصلية التي هي البراءة العقلية ورفعها ليس نسخًا إجماعًا؛ لأنَّ النسخ هو «رفعُ الحكم الشرعيِّ بالدليل المتأخِّر عنه» والبراءة حكم عقلي وليست حُكمًا شرعيًّا(٧).

والخلاف بين العلماء في هذه المسألة معنويٌّ له آثاره الفقهية المترتبة عليه، فمن تمسَّك بأنَّ الزيادة على النَّص نسخ؛ فإنَّه لا يثبت عنده تلك الزيادة بخبر الواحد أو بالقياس؛ لأنَّ المتواتر لا ينسخ بخبر الواحد ولا بالقياس لذلك لم يعملوا بحديث: «تغريب عام»(٨)؛ لأنَّه خبر الواحد تضمَّن زيادة جملة على المتواتر في قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2]، وكذلك خبر: «لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ»(٩)؛ فإنَّه زيادة تضمَّنها الخبر على المتواتر من قوله تعالى: ﴿فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل: 20]، المفيد لمطلق القراءة وجعل الفاتحة ركنًا هو نسخٌ للمتواتر بخبر الواحد، وذلك غير جائز عند الأحناف، وكذلك خبر: «لاَ تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ»(١٠)؛ فإنَّ الزيادة في الخبر على مطلق الرضاع في قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: 23]، ونحوها من المسائل.

فـصل
[ في مورد النسـخ ]

 

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 259] بعدما أورد الخلاف في دخول النسخ في الأخبار:

«وَالصَحِيحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الخَبَرِ لاَ يَدْخُلُهُ النَّسْخُ؛ لأَنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ نَسْخًا وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذِبًا لَكِنْ إِنْ ثَبَتَ بالخَبَرِ حُكْمٌ مِنَ اْلأَحْكَامِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَهُ النَّسْخُ».

[م] لا خلاف بين العلماء في جواز نسخ الخبر الذي أريد به الإنشاء، أي الخبر الذي يكون بمعنى الأمر والنهي مثل قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: 223]، وقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ﴾ [البقرة: 228]، وقوله تعالى: ﴿لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 79]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةَ»(١١)، فإنَّ مثل هذه الأخبار وغيرها أريد بها الإنشاء فهي قابلة للنسخ ونسخ ألفاظها.

أمَّا مدلول الخبر إن كان ممَّا لا يمكن تغييره بأن لا يقع إلاَّ على وجه واحدٍ باعتبار ما كان وما يكون: كأخبار الآخرة والجنَّة والنَّار، وصفات الله تعالى، وما كان عليه أمر الأنبياء والأمم وما يكون: كقيام الساعة وآياتها، فلا يجوز نسخه بحال قولاً واحدًا لا يختلفون فيه؛ لأنَّ القول بنسخه يفضي إلى الكذب وذلك مستحيل على الوحي.

أمَّا إذا كان مدلول الخبر ممَّا يصحُّ تغييره بأن يكون وقوعه على غير الوجه المخبر عنه، ماضيًا كان أو مستقبلاً، أو خبرًا عن حكم شرعي أو وعدًا أو وعيدًا فهو محلّ خلاف بين العلماء، وما عليه جمهور الفقهاء والأصوليِّين عدم دخول النسخ في الأخبار مُطلقًا، وذهب أبو عبيد الله وأبو الحسين البصريان والفخر الرازي إلى جوازه مُطلقًا، وهو اختيار تقي الدِّين بن تيمية وبعض الحنابلة، ومالت طائفة من العلماء إلى تفصيل المسألة مع اختلافهم في نوع التفصيل، واختار بعضهم تفصيلاً وجهه: أنَّ النسخ في الأخبار ممنوع مُطلقًا ولكن إن ثبت بالخبر حكم من الأحكام جاز نسخه وعليه بعض المالكية وهو ما صحَّحه الباجي(١٢) على ما هو مبيَّن في نصه.

هذا، والنسخ إنَّما يدخل الأحكامَ الشرعية العملية التكليفية، فلا يتناول النسخُ الأحكامَ المتعلّقة بالاعتقادات وأصول الدِّين، لعدم قَبولها التبديل والتغيير، كالإيمان الخاصّ «إيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيرِه وشرِّه»، ولا يدخل الأحكامَ التي ثبتت على التأبيد، كالجهاد مثلاً فالنسخ ينافيه، ولا يدخل النسخُ الأحكامَ العامّة التي ثبتت مصالحُها ثبوتًا ظاهرًا، فلا يسع رفعها، كالقواعد الكلية المتمثِّلة في الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وبطلانِ العمل المخالف للشرع، ونفي الضرر والضِّرار، كما لا يمكن رفع الأحكام المتعلِّقة بالأخلاق والفضائل، كَبِرِّ الوالدين، والعدلِ، والوفاء بالعهد، لكون جنسها لا يقبل التغييرَ، وبالمقابل لها فلا يدخل النسخُ الأحكامَ المتعلِّقةَ بالأخلاق الذميمةِ والرذائل كالظُّلم والكذب والخيانة والكفرِ وعقوقِ الوالدين، لعدم قَبول جنسها للتغيير ‑أيضًا‑ فالأُولى مصلحتُها ظاهرة، والأخرى مفسدتها بيِّنة، وكذلك لا يدخل النسخُ الأحكامَ المؤقتَّةَ: كالصيام إلى الغروب؛ لأنّ التأقيت محدود أثره إلى انتهاء غاية، وكذلك الأحكام الواردة محكمة غير منسوخة بعد الزمن النبويِّ فلا يدخلها النسخُ؛ لأنَّ النسخَ لا يثبت إلاَّ بوحيٍ(١٣).

فـصل
[ في نسخ العبادة بمثلها أو ما هو أخفّ منها أو أثقل ]

 

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 260]:

«يَجُوزُ نَسْخُ العِبَادَةِ بمِثْلِهَا وَمَا هُوَ أَخَفُ مِنْهَا وَأَثْقَلُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ، وَمَنَعَ قَوْمٌ نَسْخَ العِبَادَةِ بمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهَا».

[م] اتفق العلماءُ على جواز نسخ العبادة بمثلها أو أخفّ منها، ونقل المصنِّف الإجماعَ في: «إحكام الفصول»(١٤)، ومثال نسخ الحكم ببدل هو مثل المنسوخ في التخفيف والتثقيل والتشديد، كنسخ استقبال بيت المقدس بالكعبة، ومثال نسخ الحكم ببدل هو أخف من المنسوخ: نسخ عِدّة المتوفى عنها زوجها من الحول إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، وكلا النسخين متّفق عليهما، وذلك موافق لقوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: 106].

أمَّا نسخ العبادة بما هو أثقل منها فهو محلّ خلافٍ بين أهل العلم، والجمهورُ على جوازه عقلاً وشرعًا، وقول المصنِّف: «ومنعَ قومٌ نسخَ العبادةِ بما هو أثقلُ منها» فهذا المنع منسوبٌ لأبي بكر محمَّد بن داود الظاهري وجماعةٍ من الظاهرية والمعتزلةِ، وأضيف هذا القول ‑أيضًا‑ للإمام الشافعي، قال السبكي عنه في «الإبهاج»: «وليس بصحيح عنه»(١٥)، ونسبه الشيرازي والآمدي وغيرهما إلى بعض الشافعية(١٦).

 

[ في دليل نسخ العبادة بما هو أثقل منها ]

 

• قال المصنِّفُ -رحمه الله- في [ص 261] في معرض الاستدلال على مذهب الجمهور بدليل من المعقول:

«وَإِذَا جَازَ أَنْ يَبْتَدِئَ التَّعَبُدَ بمَا هُوَ أَثْقَلُ عَلَيْهِمْ مِنْ حُكْمِ الأَصْلِ، جَازَ  ـ أَيْضًا ـ أَنْ يَنْسَخَ عَنْهُمْ الْعِبَادَةَ بمَا هُوَ أَثْقَلُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا».

[م] هذا دليل الجمهور من المعقول، واستدلُّوا به ‑أيضًا‑ بأنَّ مصلحة التدرّج والترقِّي من الأحكام الخفيفة إلى الثقيلة لا تمتنع عقلاً، إذ في البداية تتمرّن النفوس عليها كحدِيثي عهدٍ بالكفر حتى تتهيّأ لقَبول غيرها ممّا هو مثلها أو أثقل منها.

أمَّا الدليل الثاني فيظهر في وقوع مثل هذا النسخ، و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ» مثاله: أنَّ الصيام  كان على التخيير بين الفداء بالمال والصيام في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184] ثمَّ نسخ التخيير بتعيين الصيام في قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]، ويمكن التمثيل بمثال آخر وجهه: أنَّ في بداية أمر الدعوة إلى الله أمروا بالإعراض عن المشركين، وذلك بترك القتال، ثمَّ نسخ الحكم بإيجاب الجهاد في سبيل الله، ومعلوم أنَّ الجهاد أثقل من الإعراض(١٧).

فـصل
[ في ورود التلاوة مضمنة لحكم واجب ]

 

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص262] عند بيان ما يترتَّب من حكم على ورود التلاوة مضمنة لحكم واجب:

«...فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ جَازَ نَسْخُ الحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ التِّلاَوَةِ، وَجَازَ نَسْخُ التِّلاَوَةِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ».

[م] وبهذا التقرير قال جمهور أهل العلم، وفضلاً عمّا ذكره المصنِّف فإنّه يجوز ‑أيضًا‑ نسخ الحكم والتلاوة معًا مثل ما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فُتَوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ»(١٨)، فكانت «العشر» منسوخة الحكم والتلاوة معًا بخمسِ رضعاتٍ فلم يبق للفظ «العشر» حكم القرآن لا في الاستدلال ولا في التلاوة ولا في العمل، ويستدل ﺑ «خمس رضعات» فيما نسخت تلاوته وبقي حكمه(١٩).

 

[ في نسخ الحكم مع بقاء التلاوة ]

 

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 263]:

«فَأَمَّا نَسْخُ الحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ التِّلاَوَةِ، فَهُوَ مِثْلُ: نَسْخِ التَّخْييرِ بَيْنَ الصَّوْمِ أَوْ الفِدْيَةِ لِمَنْ طَاقَ الصَّوْمَ، وَنَسْخِ الوَصِيّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبينَ، وَنَسْخِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلاَمِ وَإِنْ بَقِيَتِ التِّلاَوَةُ لِذَلِكَ كُلِّهِ».

[م] الأمثلة التي ساقها المصنِّف في نسخ الحكم وبقاء التلاوة هي من قبيل نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ إلى بدل، فآية التخيير بين الصوم والفدية للمطيق القادر في صدر الإسلام هي قوله تعالى:  ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184]، فنسخ هذا الواجب المخيّر إلى واجب مضيّق بقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]، فبقيت التلاوة ونسخ الحكم بالكتاب وإلى بدل ونسخ الأخف بالأثقل؛ لأنَّ التخيير أخفّ من التضييق.

والجدير بالتنبيه إلى أنَّ العلماء اختلفوا في تعرض آية التخيير للنسخ أو بقائها محكمة(٢٠)، والصحيح أنّها منسوخة في حقّ المقيم الصحيح وغير منسوخة فيمن لا يطيق صيامه أو المريض الذي لا يرجى برؤه لحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا»(٢١)، وعن عطاء أنَّه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ قال ابن عباس: «لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ هُوَ الشَّيْخُ الكَبِيرُ وَالمَرْأَةُ الكَبِيرَةُ لاَ يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا»(٢٢).

أمَّا قوله: «وَنَسْخِ الوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ»؛ فالمراد بذلك قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 180]﴾، فهي منسوخة بآية الميراث مع بقاء تلاوتها. غير أنَّ هذه الآية محلّ خلاف بين العلماء في كونها منسوخة أو محكمة(٢٣)، والقائلون بأنَّها منسوخة اختلفوا في الناسخ لها، وما عليه الجمهور أنها منسوخة بآية المواريث مع ضميمة أخرى وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»(٢٤)، والظاهرُ أنَّ المرادَ به نسخ وجوب الوصية مع بقاء الاستحباب لما علم في الفروع الفقهية من اتفاق الجمهور على استحباب الوصية للأقرباء غير الوارثين(٢٥).

لكن القول بإحكام آية الوصية أقرب إلى الصواب لانتفاء التعارض مع آية الميراث وضميمته؛ لأنَّ الأصل عدمُ النسخ، ولا يصار إلى النسخ إلاَّ عند تعذّر الجمع، وقد أمكن الجمع بحملها على الخصوص، ويكون المراد بها من الأقربين من عدا الورثة منهم، ومن الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين ومن هو في الرِّقّ(٢٦). قال ابن المنذر: «أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ الوصية للوالدين الذَين لا يرثان المرء والأقرباء الذين لا يرثونه جائزة»(٢٧).

أمَّا قوله: «وَنَسْخِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ» فإنّها كانت واجبة بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ [المجادلة: 12]، ثمَّ نسخ ذلك الوجوب إلى الإباحة بقوله تعالى: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة: 13](٢٨).

هذا، ويمكن إضافة مثال آخر لنسخ الحكم مع بقاء التلاوة: نسخ آية الاعتداد بالحول في قوله تعالى: ﴿وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: 240]، بالاعتداد بأربعة أشهر وعشرٍ الثابت في قوله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]، وهو من نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ الأثقل بالأخف ونسخ إلى بدل.

 

[ في بقاء الحكم ونسخ التلاوة ]

 

• ويقول المصنِّف في [ص 264]:

«وَأَمَّا بَقَاءُ الحُكْمِ وَنَسْخُ التِّلاَوَةِ فَمَا تَظَاهَرَتْ بهِ الأَخْبَارُ مِنْ نَسْخِ تِلاَوَةِ آيَةِ الرَّجْمِ وَنَسْخِ خَمْسِ رَضَعَاتٍ».

[م] آية الرجم ثبتت من حديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: مَا أَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، أَلاَ وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ إِذَا أُحْصِنَ الرَّجُلُ وَقَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوْ اعْتِرَافٌ وَقَدْ قَرَأْتُهَا: ﴿الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ﴾، رَجَمَ رَسُولُ اللهِ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ»(٢٩). فيستدلُّ بهذه الآية على نسخ التلاوة والرسم مع بقاء الحكم وهو رجم الزاني المحصَن.

وكذلك آية خمس رضعات ثبتت من طريق عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كَانَ فِيمَا أُنزِلَ مِنَ القُرْآنِ «عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ» فَنُسِخْنَ  «خَمْسِ رَضَعَاتٍ»، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ»(٣٠)، فيستدلّ «بخمس رضعات» فيما نُسِخَتْ تلاوتُه وبقي حكمه(٣١).

 

فـصل
[ في صحة نسخ العبادة قبل وقت الفعل ]

 

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 265] بعدما قرَّر مذهبَ الجمهور في صحَّة نسخ العبادة قبل وقت الفعل:

«وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبي حَنِيفَةَ: "لاَ يَصِحُّ نَسْخُ العِبَادَةِ قَبْلَ وَقْتِ الفِعْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا أُمِرَ بهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ، ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُ قَبْلَ فِعْلِهِ..."».

[م] لا خلاف عند القائلين بالنسخ في جواز النسخ قبل الفعل بعد دخول وقته؛ لأنَّ شرط الأمر حاصل وهو التمكّن من الفعل، لكن الخلاف قبل دخول وقت الفعل، والتمكُّن من فعل ذلك الأمر، فمذهب الأكثرين إلى جواز نسخ العبادة قبل دخول وقت الفعل، وبهذا قال البزدوي والسرخسي من الحنفية، وخالف في ذلك أكثر الحنفية والمعتزلة والصيرفي(٣٢) من الشافعية وابن بَرهان وأبو الحسن التميمي من الحنابلة، ومثاله أن يأمر الشارع بالحجِّ أو الصيام فيقول: حجّوا هذه السَّنَّة، أو صوموا، ثمَّ يقول قبل ابتداء الحجّ أو الصوم: لا تحجّوا، أو لا تصوموا.

وسبب الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى الأمر هل يستلزم الإرادة أَوْ لاَ ؟ وهل حكمة التكليف هي امتثال إيقاع ما كلّف به أم أنَّها ابتلاء وامتحان المكلَّف ثانيًا ؟ فمن رأى أنَّ الأمر يستلزم الإرادة، فإذا أمر بشيء علمنا أنَّه مرادٌ، ورأى أنَّ حكمة التكليف هي الامتثال والإيقاع فقط قال لا يجوز نسخ الشيء قبل التمكُّن من الفعل لتخلُّف حكمة التكليف وهي الامتثال، ونتج حكم مغاير على من بنى أصله على خلاف الأول.

والصحيح مذهب القائلين إنَّ الإرادة نوعان(٣٣):

6 إرادة كونية قدرية: وهي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، وهي لا تستلزم محبّة الله ورضاه، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [الحج: 14].

6 وإرادة شرعية دينية: فهذه متضمِّنة لمحبَّة الله ورضاه، ولكنَّها قد تقع وقد لا تقع، مثل قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 27].

وعليه، فإنَّ أوامر الله سبحانه تستلزم الإرادة الشرعية لكنَّها لا تستلزم الكونية، فقد يأمر الله تعالى بأمر يريده شرعًا وهو يعلم سبحانه أنَّه لا يريد وقوعَه كونًا وقدرًا، فكانت الحكمة من ذلك ابتلاء الخلق وتمييز المطيع من غير المطيع، لذلك جاز نسخ الشيء قبل التمكُّن من فعله. وتكون حكمة المنسوخ بعد التمكُّن من الفعل هي: الامتثال وقد وقع، وتكون حكمة المنسوخ قبل التمكّن من فعله: الابتلاء والامتحان، وقد وقع قبل النسخ(٣٤).

[ في حجّة القائلين بصحة نسخ العبادة قبل وقت الفعل ]

 

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 266] مستدلًّا لمذهب القائلين بصحَّة نسخ العبادة قبل وقت الفعل:

«وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا أُمِرَ بهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ(٣٥) ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُ قَبْلَ فِعْلِهِ».

[م] استدلَّ المصنِّف بهذه الآية على وقوع نسخ العبادة قبل وقت الفعل، و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الصِّحَّةِ وَالجَوَازِ»، وقد ورد الأمر بالذبح حقيقة حكاية عن إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات: 102]، ثمَّ قال الله تعالى: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: 102]، والأمر صَدَرَ من الله سبحانه إلى إبراهيم عليه السلام، إذ القتل محرّم إلَّا ما أذن فيه سبحانه وتعالى، فلو لم يكن الذبح مأمورًا به حقيقة لما قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: 106]، فهو بلاءٌ وُصِفَ بأنَّه عظيمٌ لما عُلِمَ أنّ نتيجةَ مُقدِّماته غيرُ مأمونةٍ من الخطر، فنسخ الله سبحانه هذا الحكم قبل التمكّن من الذبح بقوله تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107]، فإنّ الفداء هو البدل، والذبح هو المبدل عنه، فكان الذبح مأمورًا به حقيقة، ثمَّ إنَّ هذه الواقعة ‑من حيث الاستدلال السابق‑ يُؤيِّدُها عمومُ قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: 106]؛ لأنَّ ظاهر الآية جوازُ النسخِ في عموم الأحوالِ سواء بعد التمكُّن من الفعل أو قبله.

هذا، ومن الأدلَّة الحديثية على الوقوع: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم غزوةَ خيبر، فأمسى الناسُ قد أوقدوا النيران، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «عَلاَمَ تُوقِدُونَ ؟!! قَالُوا: عَلَى لُحُومِ الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ، فَقَالَ: «أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَاكْسِرُوهَا»، فقال رجلٌ من القوم: أَوْ نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَوْ ذَاكَ»(٣٦)، ووجهُ دلالةِ الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم نَسَخَ حُكْمَ كَسْرِ قُدورِ لحمِ الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ إلى غَسلها قبل التمكُّن من الفعل، و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ»، ومن ذلك ـ أيضًا ـ  ما رواه أبو داود عن حمزة الأسلمي أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَمَّرَهُ على سَرِيَّةٍ، قال: فخرجت فيها، وقال: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ»، فَوَلَّيْتُ، فَنَادَانِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا فَاقْتُلُوهُ، وَلاَ تُحْرِقُوهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ»(٣٧)، فدلَّ الحديثُ على صِحَّةِ نسخِ حُكْمِ الإحراق بالنَّار إلى حكم القتل قبلَ التمكُّنِ من الفعل. فهذه شواهدُ معتبرةٌ على صِحَّةِ مذهبِ جمهورِ أهل العلم.

 

فـصل
[ في موارد إجماع نسخ القرآن والخبر المتواتر والآحاد ]

 

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 267]:

«لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ فِي جَوَازِ نَسْخِ القُرْآنِ بالقُرْآنِ، وَالخَبَرِ المُتَوَاتِرِ بمِثْلِهِ، وَخَبَرِ الوَاحِدِ بمِثْلِهِ».

[م] هذه المذكورات في نصِّ المؤلِّف حصل فيها اتفاق أهل العلم(٣٨)، لجوانب منها:

أولاً: بخصوص نسخ القرآن بالقرآن فمستند الإجماع قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: 106]؛ ولأنَّه وقع فعلاً و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ»، كنسخ الفداء بالمال عن الصيام، ونسخ عِدَّة المتوفى عنها زوجها من سنة كاملة إلى أربعة أشهر وعشرٍ، ولأنَّ رتبة كلٍّ منهما متحدة لأنَّ كلَّ واحد منهما قطعي الثبوت.

ثانيًا: بخصوص نسخ السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة، فقد حصل فيها الإجماع لعدم الامتناع عقلاً لنسخ المتواتر بمثله إلحاقًا قياسيًّا بالقرآن، ولاتحادهما في الرتبة؛ لأنَّ كلَّ واحد منهما قطعيُّ الثبوت، غير أنَّه لم يعلم وقوعه، قال الفتوحي(٣٩): «وأمَّا مثال نسخ متواتر السُّنَّة بمتواترها، فلا يكاد يوجد؛ لأنَّ كلّها آحاد، إمَّا في أولها، وإمّا في آخرها، وإمَّا في أوَّل إسنادها إلى آخره، مع أنّ حكم نسخ بعضها ببعض جائز عقلاً وشرعًا»(٤٠).

ثالثًا: وحصول الاتفاق على نسخ خبر الواحد بمثله لوقوعه ‑أولا‑ و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ» مثل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ بِالآخِرَةِ»(٤١)، ولاتحادهما في الرتبة ثانيًا؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما ظنيّ الثبوت.

[ في نسخ القرآن بالخبر المتواتر ]

 

• قال المصنف -رحمه الله- في الصفحة السابقة نفسها:

«وَذَهَبَ أَكْثَرُ الفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ القُرْآنِ بالخَبَرِ المُتَوَاتِرِ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ».

[م] القول بجواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر هو مذهب الجمهور من أصحاب المذاهب الأربعة، وهو مذهب المتكلِّمين والمعتزلة، وبه قال الظاهرية على التحقيق، ومذهب أحمد في المشهور عنه: الجواز عقلاً لا شرعًا، وبه قال أبو يعلى، والمنقول عن الشافعي المنع مُطلقًا، ونصره بعض أتباعه وابن مهدي الطبري(٤٢)(٤٣).

وفي المنصوص عن مذهب الشافعي في «الرسالة» عدم جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة مُطلقًا من غير تفريق بين المتواتر والآحاد، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، غير أنّ النصَّ الوارد في «الرسالة» غير صريحٍ في المنع من جهة العقل، لذلك اختلفت الشافعية في نسبة المنع العقلي إلى مذهب الشافعي، وقد حقَّق السبكيُّ وابنه مذهبَه في هذه المسألة، يظهر حاصلها: أنَّ الشافعي يرى أنَّه إذا نُسِخَ القرآنُ بالسُّنَّة فيلزم أن يصاحب السُّنَّةَ قرآنٌ يعضِّدها، وإذا نُسِخَت السُّنةُ بالقرآن فيلزم أن يصاحب القرآنَ سُنَّةٌ تعضِّدُهُ ليبيِّنَ توافق الكتاب والسُّنَّة(٤٤).

هذا، وما رجَّحه المصنِّف من جواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر أقوى، سواء من جهة العقل أو الشرع، وقد استدلَّ له عقلاً أنَّ كليهما مقطوع بصحَّته، أي: لا فرق بين القرآن والسُّنَّة المتواترة من جهة المصدر؛ لأنّهما وحيان صادران من الله تعالى، ولا من جهة السند؛ لأنَّ كليهما متواترٌ قطعيُّ الثبوت، وما دام أنَّ لكل واحدٍ منهما نفس خاصية الآخر جاز نسخ القرآن بالخبر المتواتر كما يجوز نسخ القرآن بالقرآن إلحاقًا قياسيًّا.

[ في وقوع نسخ القرآن بالسنة المتواترة ]

 

• قال المصنِّف بعدها:

«وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِين﴾ [البقرة: 180] مَنْسُوخٌ بمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ"».

[م] استدلَّ المصنِّف شرعًا على وقوع نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترةِ بأنَّ آيةَ الوصِيَّةِ منسوخةٌ بحديث منعِ الوصية للوارث، و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ»، وقد اعتُرض على ذلك بأنَّ آيةَ الوصية إنَّما كان نسخُها بآية الميراث في قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، فيكون نسخُ القرآن بالقرآن لا بالسُّنَّة المتواترة، وإنَّما أشار النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما بَيَّنَتْهُ آيةُ الميراث من سهام الوالدين والأقربين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»(٤٥)، وأجيب على هذا الاعتراض بأنَّ آيةَ الوصيةِ منسوخةٌ بآية الميراث مع ضميمة أخرى وهي الحديث المتواتر: «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» إذ لا يخفى أنَّ الميراث لا يمنع من الوصية للأجانب والأقربين غير الوارثين.

كما اعتُرض: أنَّ آية الوصية لم يقع نسخها بالحديث المتواتر لأنَّ حديث: «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» خبر الواحد، وهو لا يَقْوَى على نسخِ ما ثبت بالقرآن، وأُجيب بأنّ المتواتر من حيث قوتُه نوعان: متواترٌ من حيث السندُ، ومتواتر من حيث ظهورُ العمل به من غير نكير.

فأمَّا الأوَّل فالحديث رواه جمعٌ من الصحابة وله طرق متعدِّدة، وإن كان في موضع سنده قوي، وفي آخر ورد من طرق لا يخلو إسناد منها من مقال، لكنَّه بمجموعها يتعضّد الحديث ليثبت تواتره عند الانضمام كما هو مقرَّر في الأصول وبيَّنه أهل الحديث(٤٦).

وإن سُلِّم جدلاً أنَّ الحديث لم يرتق إلى مرتبة التواتر؛ فإنَّ ظهور العمل به من غير نكير من