مقال التربيــة الذاتيــة الشيخ إبراهيم بن عبد الله المزروعي

التربيــة الذاتيــة
الأربعاء 12 جويلية 2017    الموافق لـ : 17 شوال 1438

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :

إن للفرد مسؤولية عظمى تجاه نفسه وتربيتها سواءً كان ذلك على مقاعد الدراسة أو في العمل أو في البيت أو في المسجد أو في الشارع أو غير ذلك فهو مُطالب ببلوغ الكمال البشري الذي ينبغي أن ينشده كل عاقل ، ولن يتأتى ذلك له إلا بالتربية الذاتية على اتباع المنهج الإلهي بتحقيق العبودية لله عز وجل .

* وفي هذا الدرس سنتكلم عن التربية الذاتية ، أي التربية التي تنبُع من ذات الشخص أي من نفسه  لتحقيق تلك العبودية لله عز وجل . سنتكلم عن أهمية التربية الذاتية ومبادئها ، وعن أهم وسائل  وأساليب التربية الذاتية .

 * فالتربية الذاتية هي ارتقاء الإنسان بنفسه إلى كمالها وتزكيتها . وتأتي أهمية هذه التربية ووجوبها    فيما يلي:

× أنها حقٌ لابد من القيام به . وفي الحديث الصحيح "" وإن لنفسك عليك حقاً "" رواه أبو داود .

× ولأن النفس مسؤولة يوم القيامة ، وبدون تزكيةٍ تكون هالكةً .

× ولأن التربية الذاتية مهمة ، وخاصة في زمان الفتن والشُبهات والشهوات ، ولا يستطيع المسلم أن يواجه ذلك إلا بالتربية الذاتية .

× ولكثرة الفوائد والثمار التي يجنيها الفرد إذا اعتنى بتربية نفسه .

× ولأن كثيراً من نصوص الكتاب والسنة تحث على التربية الذاتية .

 والله عز وجل خلق الإنسان لعبادته . والعبودية تعني أن يستسلم المرء لخالقه بكل جوارحه وطاقاته وتصرفاته وشعوره، كما تعني انقياده واستسلامه لشريعة الله عز وجل وتحكيمها في نفسه ورعيته. وكل إنسان له نهايةٌ حتمية لابد منها ، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه وفي القبر يبقى لوحده مع عمله إلى يوم القيامة ، ويوم القيامة يُحاسب ويُسأل لوحده . قال تعالى  ) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (  وقال تعالى)يوم تأتي كلُ نفسٍ تجادل عن نفسها (  النحل(111) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم   "" ما منكم من أحدٍ إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان "" رواه البخاري(4/198)

فالتربية الذاتية مهمة جداً للإنسان حتى ينجو بنفسه يوم القيامة .

* والتربية الذاتية لها أساليب ووسائل لابد منها ، نذكر سبعة فقط :

1- القيام بالشعائر التعبدية :  الواجبة منها والمستحبة : وهذه العبادات بها يحيى القلب وتُزكى النفس ويزداد الإيمان . قال تعالى  ) يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم(  الأنفال(24) وأهم ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل ويزيد إيمانه ويرفع درجته هو أداء الفرائض ، وهذه الفرائض على نوعين :

       ظاهرة : وهي التي تؤدّى بالجوارح كالصلاة والزكاة وغيرها .

       وباطنةً : وهي أعمال القلوب كالعلم بالله والتوكل عليه والخوف منه ، وغيرها . فأول ما يتمسك به الفرد لتربية نفسه هو المحافظة على هذه الفرائض وعدم التهاون بها ، ويأتي بعد ذلك باب النوافل والمستحبات وهي ما زاد على الفرائض من التطوعات ، وفيها يقول الله تعالى في الحديث القدسي وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ) البخاري .

* وعند القيام بالعبادات الشرعية لابد من مراعاة ما يلي :

- تقديم الفرائض على النوافل وكذلك فروض الأعيان على فروض الكفاية ، والمؤكدات على غيرها من النوافل .

- التنويع في العبادات من صلاة وصوم وذكر وصدقة وصِلةٍ وغيرها .

- المنع من تحول العبادات إلى عادات وذلك باستحضار النية دائماً .

- الاعتناء بالأدلة الصحيحة على العبادات والابتعاد عن البدع والمحدثات والأحاديث الضعيفة.

ولقد جاء الإسلام بعبادات كثيرة تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال والليل والنهار . فهناك العديد من الواجبات والسُنن القولية والفعلية والتي يُعتبر أداؤهامحاسبة قبل العمل :

 هل هذا العمل موافق للسنة وهدي السلف الصالح أم لا؟ وهل هذا العمل حرامٌ أم مكروه أم مُستحب أم جائز ؟

ب- مُحاسبة أثناء العمل : هل أنا مخلص صادق أم أنا مُرائي ؟

ج- محاسبة بعد العمل : هل قمت به كما ينبغي أم قصرت فيه وأفسدته بشيء؟

     راجع منزلة المحاسبة في كتاب ابن القيم ( مدارج السالكين)

*  ولقد اعتنى السلف الصالح بمحاسبة النفس ، وهذه بعض أقوالهم :

× قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( حاسبوا أنفسكم قل أن تُحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا فإنه أهون في الحساب غداً أن تُحاسبوا أنفسكم اليوم) كتاب الزهدلأحمد بن حنبل ، وقد سمعه أنس بن مالك يقول يوماً (عمر أمير المؤمنين، بخٍ بخٍ والله بني الخطاب لتتقين الله أو ليُعذبنك) الزهد لابن حنبل(صـ149)

× ويقول ميمون بن مهران رحمه الله ( لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (صـ33)

× وقال الحسن البصري رحمه الله (أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين يحاسبون أنفسهم في الدنيا وإنما يَثقل الأمر يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا أخذوها من غير محاسبة فوجدوا الله عز وجل قد أحصى عليهم مثاقيل الذر ) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (صـ94)

× وقال أبو حامد الغزالي في الإحياء ( من حاسب نفسه قبل أن يُحاسب خفّ يوم القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحَسن منقلبه ومآبه ، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته )

* وأما كيفية المحاسبة للنفس :  يقول ابن القيم رحمه الله ( وبداية المحاسبة أن تُقايس بين نعمته عز وجل وجنايتك ، فحينئذ يظهر لك التفاوت ، ثم تقايس بين الحسنات والسيئات فتعلم أيهما أكثر وأرجح ) تهذيب مدارج السالكين (صـ115) ومن المحاسبة أن يُقرر المرء نفسه بذنوبه ومعاصيه لكي ترجع وتؤوب . وفي الحديث الصحيح "" إن الله عز وجل يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها "" رواه مسلم (4/2113) فمحاسبة النفس من أهم وسائل تربيتها

3- تقوى الله عز وجل : وهي وسيلة مهمة للتربية الذاتية . قال تعالى ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم  (  الأحزاب(70) فالعلاقة قوية بين تقوى الله والتربية الذاتية ، وتقوى الله هي فعل الطاعات وترك المعاصي . وثمرات التقوى كثيرة منها تكفير السيئات ومضاعفة الحسنات والتوفيق من الله في جميع الأمور وتفريج الهموم وتيسير سُبل الرزق والنجاة من النار والفوز بالجنة ، وغيرها ، وهذا ما يريده العبد من تربيته لنفسه .

4- ومن وسائل التربية الذاتية : التحلي بالأخلاق الإسلامية :  قال صلى الله عليه وسلم "" إن المؤمن ليُدرك بحسن خُلُقه درجة الصائم القائم "" أبو داود ، فإذا تحلى الفرد بالأخلاق الحسنة وجاهد نفسه لكي يكتسبها فإن ذلك سيساعده بإذن الله في تزكية نفسه وتقويمها ، ومن أهم هذه الأخلاق  الحسنة :

أ- الصبــر : والصبر في التربية الذاتية على أنواع فمنه الصبر على رغبات النفس ومنه الصبر على متاعب الحياة ومنه الصبر على معاملة الناس . وفي الحديث الصحيح "" ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر "" الطبراني وهو في الصحيحة(449) وروى نحوه البخاري (4/186) وفي الحديث الآخر""  ومن يتصبر يُصبِّره الله "" البخاري(4/186)

ب – التواضع : فإذا تواضع العبد تخلص من شرور نفسه من عجب وتكبر وغرور وغير ذلك . ومن التواضع في التربية الذاتية ألا يخجل الإنسان من الاستفادة ممّن هو أصغر منه عمراً وأقل منزلة ،  وهذا موسى عليه السلام تعلم من الخضر عليه السلام .

 وهكذا جميع الأخلاق الحسنة تساهم في تربية المسلم لنفسه .

5- ومن وسائل التربية الذاتية : اتخاذ القدوة : تؤثر القدوة تأثيراً كبيراً في تكوين شخصية الفرد ووسيلة مهمة لتربية ذاته حيث أن الإنسان ميال بطبعه إلى التقليد والمحاكاة ومستعد نفسيا أن يتغير حسب الظروف والأحوال والأشخاص وبسبب الشعور بالنقص وقلة الخبرة والحاجة إلى التعلم

 

أ- القدوة المطلقة وهي الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله وأقواله وأحواله إلا ما كان من خصوصياته ، وهذا المستوى الأعلى والأمثل الذي ينبغي أن يتخذه الفرد لتربية نفسه وتزكيتها ، قال تعالى) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ( الأحزاب (21)

ب- الإقتداء بالسلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة :وهذه القدوات كثيرة وتختلف باختلاف التخصصات والمجالات ، وإجماعهم معصوم حجة ، وكل واحد منهم يؤخذ من أفعاله ويترك لأنهم غير معصومين ، فتعرض أعمالهم وأحوالهم على الكتاب والسنة فما وافقهما يؤخذ وما خالفهما يترك ، ولا ينبغي للفرد أن تذوب شخصية في شخصية القدوة وخاصة في الأمور الجبلية مثل طريقة المشي والكلام واللبس وما شابه ذلك .

ج- الإقتداء بأهل الخير والصلاح من الأحياء المحيطين بالإنسان في بيئته ،فيحرص الفرد لتربية نفسه على اختيار شخص من أهل الصلاح والتقوى يكون قدوة له في أمور الخير ويرجع إليه في السراء والضراء بعد الله تعالى ، يستفيد من عقله ومشورته وعلمه فيما يواجه من مواقف وأحوال ، قال ابن القيم رحمه الله ( فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر ، هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين ؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي ؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة لم يقتد به ولم يتبعه فإنه يقوده إلى الهلاك ، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى واتباع السنة … فليتمسك بعروته ) الوابل الصيب (ص82)

"" إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير""رواه مسلم وقال تعالى )واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ( الكهف . فإذا أراد المسلم أن يربي نفسه فليختر الرفقة الصالحة التي تعينه على الخير ..

6- العزلة والمخالطة : وهما من أهم وسائل التربية الذاتية ، والصحيح أنه لا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر فلكل منهما أثر في التربية الذاتية .

أما فوائد العزلة فمنها التفرغ للعبادة والتفكر ومحاسبة النفس وكذلك اعتزال أهل الفسق والباطل حتى يسلم المرء من أذاهم وباطلهم ، ومن فوائد العزلة الابتعاد عن المعاصي التي تأتي من المخالطة غالبا كالغيبة والنميمة والرياء وغيرها ، وكذلك من فوائد العزلة الخلاص من الفتن والخصومات ويتأكد اعتزال الناس حين ظهور الفتن . ومن فوائد العزلة السلامة من شرور الناس وحسدهم .

 أما فوائد المخالطة فمنها العلم والتعليم وخاصة فروض الأعيان ، ومن فوائد المخالطة التأدب والتأديب وكذلك نيل الثواب وترويح النفس ففي مخالطة الناس أداء لبعض الفرائض والواجبات كحضور الجمع والجماعات وأداء حقوق المسلمين وغيرها .

 والخلاصة أن كل من العزلة والخلطة حالات وأوقات تختلف من شخص لآخر حسب وضعه الاجتماعي وعلمه وفقهه ،وينبغي للعاقل أن يكون مع الناس في الخير ويعتزلهم في الشر .

7- إستغلال الوقت والاستقامة والاستمرار والدوام عليها :- من أهم وسائل تربية الذات :

فالمسلم عليه إذا أراد تربية نفسه أن يحرص على عمره وشبابه فيسابق إلى الخيرات ، ويملأ وقته وفراغه بطاعة الله واكتساب الحسنات والمعارف والأخلاق .

*وأهم وسائل ملء الفراغ : القراءة والمحاضرات والدروس والأذكار و العبادات ، ولا حرج من اللهو المباح أحيانا للترويح عن النفس كالرحلات ومسامرة الأهل وتعلم السباحة وركوب الخيل وغيرها .

 

هذه أهمية التربية الذاتية وأهم الوسائل والأساليب لها .

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .