خطبة الحث على النكاح وتذليل العقبات التي تحول دونه- الحق السادس من حقوق المسلم على أخيه المسلم إبرار بيمي الشيخ محمد بن صالح العثيمين

الحث على النكاح وتذليل العقبات التي تحول دونه- الحق السادس من حقوق المسلم على أخيه المسلم إبرار بيمي
السبت 1 جانفي 2000    الموافق لـ : 24 رمضان 1420
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

الخطبة الأولى:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله، وأمينه على وحيه، أرسله الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأسأل الله - تعالى - بمنه وكرمه أن يجعلنا ممن اتبعوهم بإحسان، إنه على كل شيء قدير.

أما بعد:

فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واشكروه ﴿أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]. أيها الإخوة، إن الزواج نعمة عظيمة من الله بها على عباده، ذكورهم وإناثهم، أحله لهم، بل أمرهم به ورغبهم فيه، فقال سبحانه وتعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 3]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج"(1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - راداً على قومٍ قال أحدهم: أنا أُصلي الليل أبداً، وقال الثاني: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأُصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"(2).

أيها الإخوة، كما أن النكاح سنة خاتم النبيين فإنه كذلك سنة المرسلين من قبله، قال الله - عز وجل -:﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾ [الرعد: 38]، ففي النكاح فوائد عظيمة وخيرات جسيمة، في النكاح: امتثال أمر الله ورسوله، وبامتثال أمر الله ورسوله حصول الرحمة والفلاح في الدنيا والآخرة، وفي النكاح: اتباع سنن المرسلين، ومن تبع المرسلين في الدنيا حشر معهم في الآخرة، وفي النكاح: قضاء الوطر وفرح النفس وسرور القلب، وفي النكاح: تحصين الفرج، وحماية العرض، وغض البصر، والبعد عن الفتنة، وفي النكاح: تكثير الأمة الإسلامية، وبالكثرة تقوى الأمة وتهاب بين الأمم، وتكتفي بذاتها عن غيرها إذا استعملت طاقاتها فيما وجهها إليه الشرع، وفي النكاح: تحقيق مباهاة النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بأمته يوم القيامة، فقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم يوم القيامة"(3)، وفي النكاح: تكوين الأسر وتقريب الناس بعضهم ببعض، فإن الصهر شقيق النسب، قال الله عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾ [الفرقان: 54]، أي: جعله نسباً ذا قرابة وصهراً ذا مصاهرة؛ وهو الاتصال بسبب النكاح، وفي النكاح: حصول الأجر والثواب بالقيام بحقوق الزوجة والأولاد والإنفاق عليهم، وفي النكاح: الغنى وكثرة الرزق، وليس كما يتوهمه الماديون ضعفاء اليقين والتوكل إن الله - سبحانه تعالى - يقول: ﴿وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 32]، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: "ثلاثة حق على الله عونهم وذكر منهم الناكح يريد العفاف"(4)، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "رغبهم الله تعالى في التزويج ووعدهم عليه الغنى فقال: ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 32]".

أيها الإخوة، إن مصالح النكاح كثيرة لا يسعنا في هذا المقام أن نعدها، ولكن من أراد أن يستوعبها أو كثيراً منها فعليه بكتب أهل العلم في هذا الموضوع، إن النكاح صلاح للفرد وصلاح للمجتمع في الدين والأخلاق، والحاضر والمستقبل، وهو كذلك درء للمفاسد الناتجة عن تركه وعدم المبالاة فيما يحول دونه من عقبات.

أيها الإخوة، لقد كان ينبغي لنا أن نهتم بدراسة العقبات التي تحول دون النكاح؛ لنتلافى النتائج السيئة التي تترتب على تركه، وإن أهم هذه العقبات فيما أرى ثلاث، إحداها: عزوف كثير من الشباب الذكور والإناث عن النكاح، أي: أن كثيراً من الشباب الذكور والإناث لا يرغبون في النكاح بحجة أن النكاح يحول بينهم وبين دراستهم، وهذه حجة واهية بل حجة داحضة، فإن النكاح لا يمنع من المضي في الدراسة أو النجاح فيها والتحصيل، بل ربما يكون النكاح عوناً على ذلك، فإن الإنسان إذا وفق لزوجة صالحة وسادت بينهما روح المودة صار كل واحد منهما عوناً للآخر على دراسته وعلى مشاكل حياته، وأكثر الناس تتكلل زواجاتهم بالتوفيق - ولله الحمد -، وكم من شباب ذكور وإناث رأوا من الراحة وتفرغ الفكر والنفس للدراسة ما كان عوناً لهم عليها، فعلى الشباب الذين اغتروا بهذه الحجة الباطلة أن يعيدوا النظر مرة بعد أخرى؛ حتى يصححوا من خطئهم، وليسألوا زملاءهم الذين تزوجوا ماذا رأوا من الخير والطمأنينة من وراء النكاح، وبهذا تتذلل هذه العقبة، ولتنظر المرأة ماذا يفيدها إذا أكملت دراسة ليست بحاجة إليها في كثير من موادها؟ وفاتتها سعادة النكاح، وعقمت من الأولاد، وأصبحت من الأرامل، ولم تسعد في حياتها ولا أولاد لها يذكرونها بعد وفاتها، أما العقبة الثانية التي تحول دون النكاح ومصالحه العظيمة: فهي احتكار بعض الأولياء الظلمة لبناتهم ومن لهم ولاية تزويجهن، أولئك الأولياء الذين لا يخافون الله، ولا يرعون أمانتهم، ولا يرحمون عباد الله، أولئك الأولياء الذين اتخذوا من ولايتهم على تلك المرأة الضعيفة مورداً للكسب المحرم، وأكل المال بالباطل، تجد الخاطب الكفء في دينه وخلقه يخطب منهم فيفكرون ويقدرون ثم يقولون الكلمة الأخيرة البنت فائتة، البنت صغيرة، شاورتها فأبت وهو كاذب في ذلك، لكنه يرتكب هذه الأقوال الكاذبة يفتريها، يرد ذلك الخاطب الكفء إما لعقد نفسية تثقل عليه الإجابة، وإما لطلب مال يحصله من وراء ولايته، وإما لعداوة شخصية بينه وبين الخاطب.

 أيها الإخوة، إن الولاية دين وأمانة يجب النظر فيها على مصلحة المولى عليه لا على أغراض الولي، إن دفع الخاطب للكفء في دينه وخلقه بمثل هذه الأقوال الكاذبة والعلل الباطلة إنما هو معصية لله ورسوله، وخيانة للأمانة، وإضاعة لعمر المرأة التي تحت ولايته، وسوف يحاسب على ذلك يوم القيامة، ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88-89]، ولقد حدثني بعض من أثق به أن رجلا كان يمنع الخطاب من بناته، وأن إحداهن مرضت من أجل هذا، فلما كانت في سياق الموت قالت لمن حولها من النساء: أبلغن أبي السلام وقلن له: إن بيني وبينه الله والموقف يوم القيامة بيننا وليس ببعيد، فتأمل هذه المسكينة التي كانت في سياق الموت تحاسب والدها؛ لأنه - والعياذ بالله - يمنع الكفء فلا يقبل الخطبة، أفلا يكون عند هذا وأمثاله دين ورحمة؟ أفلا يفكر الواحد منهم لو أن أحداً منعهم النكاح مع رغبتهم فيه فماذا يكون رد الواحد منهم؟ أفلا يعتبر بذلك فيمن تحت يده من النساء الراغبات في النكاح وهو يمنعهن الأكفاء خلقاً وديناً؟ سبحان الله! ماذا جنى هؤلاء الأولياء على أنفسهم وماذا جنوا على من تحت ولايتهم؟ ولقد أوجد أهل العلم - رحمهم الله - تذليلاً لهذه العقبة حيث قالوا: إن الولي إذا امتنع من تزويج موليته كفئاً ترضاه فإن ولايته تسقط وتكون لمن بعده، فمثلاً لو امتنع أبو المرأة من تزويجها كفئاً في دينه وخلقه وقد رضيت به ورغبت فيه فإنه يزوجها أولى الناس بها بعده، فإن كان لها جد زوجها، وإن لم يكن لها جد زوجها أخوها أو عمها أو غيرهم ممن له ولاية، الأولى فالأولى، فإن أبوا كلهم خوفاً من أبيها فإن الولاية تنتقل عنهم إلى القاضي الشرعي فيزوجها رغماً عن أنوف أوليائها؛ وذلك لأن النكاح حقاً للمرأة وليس حقاً لأبيها ولا لأخيها ولا لابنها ولا لأحد من أقاربها، نعم، لو كان الخاطب غير كفء في دينه فرضيته المرأة وأبى وليها فله الحق في ذلك ولا إثم عليه، ولو بقيت لم تتزوج إلى الموت؛ لأن إباءه تزويجها لمصلحتها ومن مقتضى أمانته، العقبة الثالثة التي تحول دون النكاح ومصالحه العظيمة: غلاء المهور ونفقات الزواج وتزايدها، حتى صار النكاح من الأمور المستحيلة أو الشاقة جداً لدى كثير من الراغبين في الزواج، إلا بديون تشغل ذمته وتذله فتجعله أسيراً لدائنه، وإن تذليل هذه العقبة أن يفكر ذووا الرأي من الأولياء ما هو المقصود بالنكاح؟ وما هي مكانة المرأة التي جعلك الله ولياً عليها؟ هل المقصود بالنكاح المال؟ هل المرأة سلعة تباع أو تمنع بحسب ما يبذل فيها من المال؟ كل هذا لم يكن، فليس المقصود بالنكاح المال، وإنما المال وسيلة إليه، وليست المرأة سلعة بل هي أكرم من السلعة، هي أمانة عظيمة وجزء من أهلها، هي بضعة من أبيها، وإذا فكرنا هذا التفكير وبلغنا هذه النتيجة عرفنا أن المال لا قيمة له، وأن المغالاة في المهور ونفقات الزواج لا مبرر لها، فلنرجع إلى ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وما كان عليه أصحابه، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أَلا لا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا وَتَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أَصْدَقَ قَطُّ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلا مِنْ بَنَاتِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً"، وإن الرجل ليغلو في صداق امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول كلفت إليك علق القربة، أي: تكلفت كل شيء عندي إليك حتى علق القربة وهو: الحبل الذي تعلق به، فإذا رجعنا إلى ما كان عليه السلف الصالح من تقليل المهور تيسرت أمور الزواج، وعظمت بركاته، وانتفع بذلك الرجال والنساء، إن هذه المغالاة في المهور تُوجب تعطل كثير من الرجال والنساء عن النكاح، أو محاولة الزواج من الخارج الذي قد يسبب له مصاعب ومتاعب كثيرة، وربما يحصل به تغيير المجتمع في عاداته وأحواله وربما في عباداته وعقائده؛ لأن للخلطة تأثيراً كثيراً في تغيير هذه الأمور.

أيها الإخوة، إن المهر إذا كان كبيراً فإن الرجل مهما كان بالنسبة لزوجته سوف يضيق صدره إذا تذكر عظم هذا الصداق، ولا سيما إن كان ديناً، وإذا حصل بينهما مشكلة فإنه لا يمكن أن يفارقها؛ لأنه خسر عليها خسائر كبيرة إلا أن يعطوه مهره، وهم ربما قد يكونون فقراء وقد أخرجوا المهر في أمور أخرى؛ لذلك أحث إخواني المسلمين أن يقللوا من المهور، فإن "أعظم النكاح بركةً أيسره مؤونة"(5).

أيها الإخوة المؤمنون، أيها المتقون لله عز وجل، إن كثيراً من الأولياء - الآباء أو غيرهم - يشترطون على الزوج الخاطب مالاً يدفعه إليهم، وسيكون هذا المال بالتأكيد على حساب مهر المرأة، وهذا أكل للمال بالباطل، فالمهر كله للزوجة ليس لأبيها ولا لأخيها ولا لعمها ولا لأحد من أوليائها ليس له فيه حق، المهر كله للزوجة، واسمعوا الله - تعالى - يقول:﴿وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4]، فأضاف الله الصداق إليهن، وجعل التصرف فيه إليهن، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قال:"أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح - أي: بعد عقده - فإنه لمن أعطيه"(6)، فاتقوا الله عباد الله، ولا تشترطوا شيئاً من مهر المرأة ولا من غير مهر المرأة على الزوج، إنه ليس لكم حق في ذلك، إنكم إن فعلتم أكلتم المال بالباطل، دعوا مهور النساء لهن، إنكم إن اشترطتم لأنفسكم شيئاً منه فإنه اقتطاع بغير حق، وسبب للتلاعب بولاية النكاح؛ حيث يلاحظ الولي هذا الشرط فيزوج من يعطيه أكثر ويمنع من لا يعطيه، ضارباً بمصلحة وليته عرض الحائط، وهذا إهدار للأمانة وخيانة للولاية، فأدوا الأمانة رحمكم الله، واحفظوا الولاية، و﴿لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 27-28]، اللهم إنا نسألك أن تعيننا على أداء الأمانة، وأن تعيننا على أنفسنا بالخضوع لأوامرك واتباعها على الوجه الذي ترضاه، واجتناب محارمك والابتعاد عنها يا رب العالمين، إنك جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فيا عباد الله، سبق لنا في ست جمع ماضية بيان شيء من حقوق المسلم على أخيه، أرجو الله - تعالى - أن تكون لكم على بال، وأن تعملوا بها ابتغاء وجه الله وأداء لحقوق إخوانكم من عباد الله، وإن من حقوق المسلم على أخيه أن يبر يمينه إذا أقسم عليه، يعني: إذا أقسم أخوك عليك بشيء فبر بيمينه، وافعل ما أقسم عليه إن كان يُريد منك فعلاً، واترك ما أقسم عليه إن كان يريد منك تركاً، ابتغ بذلك امتثال أمر رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر بإبرار المقسم"(7)، وها هنا أمران؛ الأول: هل من حق الإنسان أن يُقسم على أخيه؟ والجواب على ذلك: إذا كان في أمر لا يضره فإنه لا حرج عليه، ولكن ترك الإقسام أولى، وإن كان في أمر يضره فإنه لا يحل له أن يحرج أخاه بالإقسام عليه، فلا يحل له أن يُقسم عليه فيقول: والله لتخبرني كم مالك؟ كم عيالك؟ وما أشبه ذلك من الأمور المحرجة التي لا يحب الإنسان أن يطلع عليها أحد، فإن فعل ذلك فإنه ظالم ولا يفلح الظالم، ولا حق له في إبرار القسم، أما الثاني: وهو الذي ليس فيه ضرر على أخيك المسلم، فلا حرج عليك أن تُقسم عليه ولكن تركه أولى، مثال ذلك: أن تتنازع معه أيكم يدخل الباب أولاً، فتقول له: ادخل، يقول: ادخل، فيحلف عليك أو تحلف عليه، فمن حلف الأول فهو الأحق ببر يمينه؛ لأنه لما أقسم صار له الحق في إبرار القسم، وبهذه المناسبة أود أن أحذر إخواني المسلمين من كثرة الإقسام؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قال في كتابه العظيم:﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89]، قال بعض المفسرين: أي لا تكثروا الأيمان، وإذا حلفتم فاقرنوا ذلك بمشيئة الله، أي قولوا: والله إن شاء الله؛ لأن من قرن حلفه بالمشيئة استفاد فائدتين عظيمتين؛ الفائدة الأولى: أن الله ييسر له ما حلف عليه، والفائدة الثانية: أنه لو لم يتيسر لم يكن عليه كفارة، واسمعوا إلى هذه القصة التي جاءت على لسان أحد الأنبياء الكرام؛ وهو سليمان بن داوود الذي آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، أقسم ذات يوم أن يطوف الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، انظروا إلى هذا المقصد الأسمى، إنما طلب الأولاد ليقاتلوا في سبيل الله، وإنما أقسم أن يطوف على النساء لا لمجرد الشهوة ولكن لتلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، ولكنه لشدة عزمه على ذلك لم يقل إن شاء الله، فطاف على تسعين امرأة، أي: جامعهن، فولدت واحدة منهن نصف إنسان فقط، ليريه الله - عز وجل - أن الأمر أمر الله، وأن الله هو الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يجزم على الشيء المستقبل إلا مقروناً بمشيئة الله؛ لقول الله - تعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: 23-24]، قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في قصة سليمان: "لو قال إن شاء الله لم يحنث ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين"(8)، الفائدة الثانية: أنك إذا قلت والله إن شاء الله لأفعلن كذا ثم لم تفعل فلا إثم عليك ولا كفارة عليك؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث"(9)، فأولاً: أقلوا من الأيمان، وإذا ابتليتم بها فقولوا: إن شاء الله تحصل لكم هاتان الفائدتان العظيمتان، واعلموا - أيها الإخوة - أنه لا كفارة في يمين على شيء ماضٍ ولكن الإثم أو السلامة منه، فإذا حلف الإنسان على شيءٍ أنه كائن ولكنه لم يكن فإن كان هذا هو الذي يغلب على ظنه فلا شيء عليه، وإن كان كاذباً فإنه آثم، ويرى بعض العلماء: أن ذلك من اليمين الغموس، فلا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون، ولا تكثروا الحلف بالله؛ لأن الله - تعالى - أمركم أن تحفظوا أيمانكم، اللهم يا من خلقتنا فأوجدتنا، وأمددتنا بالنعم، وعلمتنا ما لم نكن نعلم، نسألك اللهم بهذه النعم التي أنعمت علينا أن تجعلنا ممتثلين لأمرك، مجتنبين لنهيك، متبعين لرسولك، وأن تتوفانا على ذلك يا رب العالمين، اللهم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، واعلموا أن "خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها - أي: في دين الله -، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة"، فعليكم بالجماعة، اجتمعوا على دين الله ولا تفرقوا فيه، فإن من شذ عن جماعة المسلمين شذ في النار" وأكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم؛ الذي دلكم على الخير ورغبكم فيه، وبين لكم الشر وحذركم منه، فله عليكم حقوق أعظم من حقوق الآباء والأمهات، ويجب عليكم أن تقدموا محبته على محبة الأمهات والآباء والبنات والأبناء، بل وعلى النفس، فإنه لا يتم الإيمان إلا بذلك، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهراً وباطناً، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلي أفضل أتباع المرسلين، اللهم ارض عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارض عنا معهم، وأصلح أحوالنا كما أصلحت أحوالهم يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا الذين يدافعون عن أنفسهم في كوسوفا، اللهم انصرهم على الصرب، اللهم أذل الصرب يا رب العالمين، وأذل من يعينهم على حرب إخواننا إنك على كل شيء قدير، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الدين من المنافقين، واليهود، والنصارى، والملحدين وجميع المفسدين يا رب العالمين، اللهم عليك بهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم حتى لا يضروا الإسلام والمسلمين يا رب العالمين، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].

--------------------

(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (4050)، وأخرجه البخاري في كتاب الصوم (1772)، وفي كتاب النكاح (4678)، ومسلم في كتاب النكاح (2486)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين (13534)، والبخاري في كتاب النكاح (4675)، ومسلم في كتاب النكاح (2487)، وغيرهم من أصحاب السنن، من حديث أنس رضي الله عنه.

(3) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين (12152)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما، وأخرجه النسائي في كتاب النكاح (3175)، وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح (1754)، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.

(4) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين (9258)، وابن ماجه في كتاب النكاح (2509)، والنسائي في كتاب النكاح (2166)، وأخرجه الترمذي في فضل الجهاد (1579)، والنسائي في كتاب الجهاد (2069)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5) أخرجه الإمام أحمد (6/28)، والطيالسي (1427)، والنسائي في الكبرى (9274)، والحاكم (2/178)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(6) أخرجه الإمام أحمد (2/182)، وأبو داود (2129)، وابن ماجه (1955), والنسائي (6/120)، والبيهقي (7/248)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(7) أخرجه الإمام أحمد في مسند الكوفيين (1790)، والبخاري في كتاب الجنائز (1163)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة (3848) وغيرهم، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

(8) أخرجه الإمام أحمد في مسنده باقي مسند المكثرين (7390)، والبخاري في كتاب الجهاد والسير (3171)، ومسلم في كتاب الإيمان (3126)، والنسائي في كتاب الأيمان والنذر (3771)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(9) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين (739)، والبخاري في كتاب النكاح (4841)، ومسلم في كتاب الإيمان (2124)، والترمذي في كتاب النذر والأيمان (1453)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.