خطبة كمال الدين ويسره الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

كمال الدين ويسره
الجمعة 2 أوت 2002    الموافق لـ : 23 جمادة الأولى 1423
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

كمال الدين ويسره

خطبة جمعة بتاريخ / 23-5-1423 هـ

 

إن الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلّم تسليماً كثيرا.

أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فإن من اتقى الله وقاه، وتقوى الله جلّ وعلا : أن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله ، وأن يترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله.

عباد الله: إن نِعَمَ الله جلّ وعلا على عباده كثيرة لا تحصى ، وإن أجلّ نعمه سبحانه على عباده هدايتهم لهذا الدّين القويم والملة الحنيفية ملة الإسلام التي لا تنال العبارة كمالها ولا يُدْرِكُ الوصفُ حُسنَها ، فما أنعم الله على عباده بنعمة أجلّ من أن هداهم له وجعلهم من أهله وممن ارتضاه لهم وارتضاهم له ، ولهذا امتن عليهم بهدايتهم إليه ، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران:١٦٤] ، وقال تعالى معرِّفاً لعباده ومذكِّرا لهم عظيم نعمته عليهم بهذا الدين مستدعياً منهم شكرَهم على أن جعلهم من أهله : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣] .

عباد الله: لقد جاءت شرائعُ هذا الدين وأعمالُه متمَّمتا مكملة، وسهلةً ميسرة لا يلحق العباد في الإتيان بها عنت أو مشقة ، ومن يتأمل على سبيل المثال الأمور الخمسة التي بُني عليها الإسلام المذكورةَ في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ )) ، يجد أنها أعمالا ميسَّرة وطاعاتٍ مكمّلة مشتملةً على صلاح العباد وزكاتهم وكمالهم ورفعتهم .

فالشهادتان - عباد الله - عنوانٌ لهذا الدين ومفتاح للإسلام ، وهما أصل الدين وأساسُه ورأس أمره وساق شجرته المباركة ، وبقية الأركان والفرائض متفرعة عنهما متشعبة منهما مكملات لهما .

وأما الصلاة - عباد الله - فقد وُضعت على أكمل الوجوه وأحسنها متضمنةً لتعظيم الله بأنواع الجوارح من نطق اللسان وعمل اليدين والرجلين والرأس وحواسه ، وسائر أجزاء البدن كلٌّ منها يأخذ حظه ونصيبه في هذه العبادة ، وهي مشتملة على الثناء والحمد والتمجيد والتسبيح والتكبير وشهادة الحق والقيام بين يدي الرب مقام العبد الذليل الخاضع المنكسر المخبت ، مشتملةٌ على التذلل لله في هذا المقام والتضرعِ والتقربِ إليه بتلاوة كتابه ثم انحناء الظهر ذلاً له وخشوعاً واستكانة ، ثم استواؤه قائما ليستعدّ لخضوعٍ أكمل له من الخضوع الأول وهو السجود من قيام ؛ فيضع أشرف شيء فيه وهو وجهه على الأرض خضوعاً لربه واستكانةً وخضوعاً لعظمته وذلاً لعزته ، وقد انكسر له قلبه وذلّ له جسمه وخشعت له جوارحه ، ثم يستوي قاعداً يتضرع إليه ويتذلل بين يديه ويسأله سبحانه من فضله ، ثم يعود إلى هذه الحال من الذل والخشوع والاستكانة فلا يزال هذا دأَبه حتى يقضي صلاته ، فيجلس عند إرادة الانصراف منها مثنياً على ربه مسلِّماً على نبيه وعلى عباده ثم يصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يسأل ربه من خيره وبره وفضله ثم يسلّم ، فأي عبودية أشرف من هذه العبودية !! وأي كمال وراء هذا الكمال!!

وأما الزكاة - عباد الله - وما تضمنته من مواساة ذوى الحاجة والمسكنة من عباد الله الذين يعجزون عن إقامة نفوسهم ويُخاف عليهم التلف إذا خلاَّهم الأغنياء وأنفسهم ، مع ما فيها من الرحمة والإحسان والبِّر والطُهر والاتصاف بالكرم والإيثار والجود والفضل والخروج من شح النفس والبخل والدناءة ونحو ذلك مما يدل على تمام هذه العبادة وكمالها.

وأما الصوم - عباد الله - فإنه عبادة عظيمة تكف النفس عن شهواتها وتخرجها عن شبَه البهائم إلى شبه الملائكة المقرّبين ، فإن النفس إذا خُليَت ودواعي شهوتها التحقت بعالم البهائم ، فإذا كُفَّت شهواتها لله وضُيّقت مجاري الشيطان وصارت قريبةً من الله بترك عاداتها وشهواتها محبةً لله وإيثاراً لمرضاته وتقرباً إليه فإن الصائم يدَعُ بصيامه أحبَّ الأشياء وأعظما لصوقاً بنفسه من الطعام والشراب والجماع من أجل ربه وطمعاً في نيل ثوابه ومرضاته، فأي حُسنٍ يزيد على حُسن هذه العبادة التي تكسر الشهوة وتقمع النفس وتحيي القلب وترغِّب فيما عند الله وتزهِّد في الركض وراء الشهوات وتعين العبد على القيام بتقوى الله ، وما استعان أحد على القيام بتقوى الله وحفظ حدوده واجتناب محارمه بمثل الصوم ، وكل ذلك دال على كمال هذه العبادة وجمالها.

وأما الحجُّ - عباد الله - فشأنه أجلّ من أن تحيط به العبارة ، وهو خاصة هذا الدين الحنيف ؛ حيث جعل الله بيته الحرام قياماً للناس ، فهو عمود العالَم الذي عليه بناؤه ، فلو ترك الناس كلُّهم الحجَّ سنة لخرَّت السّماء على الأرض، كما قال ذلك ابن عباس رضي الله عنهما ، فالبيت الحرام قيام العالم ؛ فلا يزال قياماً مادام هذا البيتُ محجوجاً ، فالحج هو خاصة الملة الحنيفية ومعونة الصّلاة وسرّ قول العبد لا إله إلا الله ، فإنه مؤسَّس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة والانقياد الكامل لله عز وجلّ ، ولهذا كان شعارُ الحاج " لبيك اللهم لبيك " ، ومن يتأمّل في هذه العبادة العظيمة من الإحرام واجتناب العوائد والمألوفات وكشف الرأس ونزع الثياب المعتادة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة ورمي الجمار وسائر شعائر الحج يجدها خير شاهد على حُسن هذه العبادة وتمامها وكمالها ، ومن نعمة الله على عبده إذا أدّاها على التّمام والكمال أن يخرج من ذنوبه وخطاياه كيوم ولدته أمُّه كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

عباد الله : فمن يفرط في هذه الأعمال الزاكية والطّاعات العظيمة التي هي عنوان هذا الدين ودليل كماله فقد حكَم على نفسه بالحرمان وقضي عليها بالخسران وحرمها لذة وزينة هذه الحياة ؛ إذ لذة الحياة الدنيا وزينتها الحقيقية إنما تكون بذلك ، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: ((ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَسُولًا )) ؛ اللّهم اجعلنا كذلك ، ومُنَّ علينا بالثبات على ذلك إلى يوم لقاء الله ، اللهم أحيينا مسلمين وتوفنا مؤمنين غير ضالين ولا مضلين .

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا. أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى .

عباد الله : لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا )) .

عباد الله : إن هذا الحديث العظيم الجامع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع للمسلمين أصلاً عظيما ومقاماً رفيعاً يبين مكانة هذا الدين وسماحته ويُسره .

((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ )) ؛ هذه قاعدة عظيمة وأصل متين تبين مكانة هذا الدين وشأنه ، ديننا يسر في عقائده ؛ فعقائده أزكى العقائد وأتمها وأكملها ، عقائد عظيمة توافق الفطر السليمة والعقول المستقيمة ، ليس في عقائد الإسلام شطط ولا جنوح ، وعبادات هذا الدين عبادات متمَّمة مكمَّلة ميسرة تزكّي القلوب وتُصِحُّ الأبدان وتقوي الصلة بالله سبحانه وتعالى ، وأخلاق هذا الدين وآدابه أخلاقٌ تامة مكمّلة فيها زكاة الناس وصلاح أمورهم واستقامة أحوالهم واجتماع كلمتهم وبُعدهم عن التفرق والشتات ، فديننا يسر في عقائده وعباداته وأخلاقه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (( وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ )) ، والمشادة هنا : أن يتجاوز العبد بنفسه حدود الشريعة وأن لا يسَعَه فيها ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، فيشدّد على نفسه ويعسِر عليها ويُلحق بها العنت والمشقة ، فمن فعل في نفسه ذلك تديناً فإن الدين يغلبه كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا على العبد أن يعمل، بما وجّه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام هذا الحديث حيث قال: ((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا )) ؛ والسداد عباد الله : أن يحرص العبد على موافقة السنة وإصابة هدي خير الأمة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، فإن السداد هديه ، والقوام سلوكه ، والقصد منهجه صلوات الله وسلامه عليه ، فمن لم يستطع ذلك فعليه بالمقاربة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ((وَقَارِبُوا ))  أي جاهدوا أنفسكم على مقاربة السنة والقرب من هدي النبي صلى الله عليه وسلم بلا غلو ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط، ومن كان كذلك فليبشر ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ((وَأَبْشِرُوا )) ولم يذكر بماذا ؛ لأن البشارة شاملة لكل خير وسعادة وفلاح ورفعة وسؤدد وكمال في الدنيا والآخرة .

فسددوا عباد الله وقاربوا وأبشروا ، والكيّس مِنْ عباد الله مَنْ دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني . وصلوا وسلموا عل محمد بن عبد الله،  كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)).

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبى بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واحم حوزة الدين يا رب العالمين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين ، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وأعِنه على البر والتقوى ، وسدّده في أقواله وأعماله وألبسه ثوب الصحة والعافية ، اللهم وفق جميع ولاّة أمر المسلمين للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم واجعلهم رحمة ورأفة على عبادك المؤمنين ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان ، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان ، اللهم انصرهم نصراً مؤزرا ، اللهم أيدهم بتأييدك واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم وعليك باليهود المعتدين المجرمين الغاصبين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم مزقهم شر ممزق ، اللهم خالف بين قلوبهم وشتت شملهم واجعل عليهم دائرة السوء .

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر ، اللهم إنا نسألك الهدى والسداد،  اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم أصلح ذات بيننا وألف بين قلوبنا واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقواتنا وأموالنا وأزواجنا وذرياتنا واجعلنا مباركين أينما كنا ، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ، دقه وجله أوله وآخره ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا يا حي يا قيوم ، اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا وثمرنا يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم فرج همّ المهمومين من المسلمين ونفِّس كرب المكروبين واقض الدّين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين ، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( .