مقال تَذكيرٌ ونصيحة ٌوسلوانٌ لأهل البليدة وسائر الإخوان الشيخ محمد عبد الهادي

تَذكيرٌ ونصيحة ٌوسلوانٌ لأهل البليدة وسائر الإخوان
الخميس 23 أفريل 2020    الموافق لـ : 29 شعبان 1441
تَذكيرٌ ونصيحة ٌوسلوانٌ
لأهل البليدة وسائر الإخوان

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد؛
فأتوجه بهذه الكلمة إلى أهل الجزائر عامة وإلى أهل البليدة خاصة:
اعلموا -وقاني الله وإياكم من كل سوء ومكروه- أن كلَّ شيء بقضاء الله وقدرِه، وكلَّ مقدورٍ فما عنه مَفَر، فهو سبحانه لا رَادَّ لمشيئتِه ولا معقب لقضائه وأمره وحكمه، وكل ما يجري في هذا العالم علويه وسفليه إنما بمشيئة الله النافذة؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
قال ﷻ : ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾[1].وقال ﷻ: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾[2].وقال ﷻ : ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[3].
فجميع ما يصيب الناس إنما هو بقضاء الله وقدره، وهذه عقيدة كل مسلم لا يشك فيه ولا يرتاب، يقول ﷻ في محكم الكتاب: ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾[4].

أقولُ:
إنّ هذا الوباء الذي نزل لم ينزل ببلادنا وحدها، بل اجتاح العالمَ كلَّه، وأخافهم بل أصابهم الرعب والهلع منه، وإنْ كلٌّ ليبحث جاهدا عن سبيل النجاة منه. وما هم بفارِّين منه ولا ناجِين منه إلا بإذن الله. وليس فرارٌ منه كمثله الفرار منه إلى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إخواني.. إن وباء كورونا طاعون من الطواعين، وقد ابتليت البشرية عبْرَ تاريخها بطواعين عدة، بل قد حدث هذا في أفضل العصور -عصرِ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين- كما هو معلوم، وهو المعروف بطاعون عَمَواس، فكان أول طاعون في الإسلام بالشام.
وعَمَواس قريةٌ في بلاد الشام في فلسطين بالذات، وكان ذلك عام ثمانية عشرة، أي في خلافة عمرَ الفاروقِ ، وقد قيل: إنه مات بسببه في ثلاثة أيام ما بين خمس وعشرين ألفا إلى ثلاثين ألف قتيل! فمات فيه خلق كثير لا يحصيهم إلا الله ، بل مات فيه عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ومنهم هؤلاء الصحب الكرام: معاذ بن جبل، وأبو عبيدة بن الجراح، وشرحبيل ابن حسنة، والفضل بن العباس، ويزيد بن أبي سفيان، وسهيل بن أبي عمر، وابنه أبو جندل، وغيرهم من أصحاب النبي [5]. ومن الطواعين أيضا: طاعون لكريب اسبانيول، وقد مات بسببه خمسون مليونا! وبعض الإحصائيات تقول مائة مليون!
وهذا الفيروس -فيروس كورونا- الذي اهتزَّ له العالم - يا سلمكم الله- ما هو إلا خلق من خلق الله تعالى، لا يُرى بالعين المجردة وإنما عن طريق المجهر، قد ابتلى اللهُ به خلقه ليبينَ لهم  عجزَهم، وليُظهرَ لهم مدى كونهم مخلوقاتٍ ضعيفة أمامَ قدرته ، فلأيِّ شيء يتعاظمون ويتعالون ويطغون؟!
قال الرئيس عبد المجيد تبون وفقه الله للخير: إن هذا الوباء جديد على البشرية بهويته المجهولة وسرعةِ انتشاره، حتى أنه حيَّر منظمة الصحة العالمية، وأرْبَك القدراتِ العلمية والتكنلوجية، وتَفَشَّى في أكثر الدول تقدمًا في العالم، وتلك الدول اليومَ تقفُ عاجزةً عن الحدِ من تَفَشِّي وباءٍ لم يعد أي جزء من الأرض في مأمن من شره.

الطاعون -أيها الإخوة في الله- عذابٌ يبعثه الله على من يشاء من عباده، وقد جعله ربنا رحمة للمؤمنين، فليس من أحد من المسلمين يقع الطاعون في بلده، فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له؛ إلا كان له مثل أجر شهيد، بهذا نطق رسول الله ؛ الذي ما ينطق عن الهوى إنه هو إلا وحيٌ يوحى.
فأهل الإيمان الذين حققوا الإيمان قولا وعملا واعتقادا يكون عليهم رحمة ولهم رفعة عند الله ﷻ، وذلك بِنَيْلهم الشهادة وهي المنزلة العظيمة، أعظمْ بها - أخي المسلم- من منزلة!

واعلموا -يا رعاكم الله- أن من أسباب الأوبئة والطواعين والأمراض الفتاكة والمصائب: الوقوعَ في حَمْأَةِ المعاصي ومستنقعات الآثام. قال الإمامُ ابن القيم  في كتاب "الداء والدواء"[6]مِما يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ، أنَّ الذُّنُوبَ والمَعاصِيَ تَضُرُّ، ولا بُدَّ أنَّ ضَرَرَها في القَلْبِ كَضَرَرِ السُّمُومِ في الأبْدانِ عَلى اخْتِلافِ دَرَجاتِها في الضَّرَرِ، وهَلْ في الدُّنْيا والآخِرَةِ شَرٌّ وداءٌ إلّا سَبَبُهُ الذُّنُوبُ والمَعاصِي، فَما الَّذِي أخْرَجَ الأبَوَيْنِ مِنَ الجَنَّةِ، دارِ اللَّذَّةِ والنَّعِيمِ والبَهْجَةِ والسُّرُورِ إلى دارِ الآلامِ والأحْزانِ والمَصائِبِ؟
وَما الَّذِي أخْرَجَ إبْلِيسَ مِن مَلَكُوتِ السَّماءِ وطَرَدَهُ ولَعَنَهُ، ومَسَخَ ظاهِرَهُ وباطِنَهُ فَجَعَلَ صُورَتَهُ أقْبَحَ صُورَةٍ وأشْنَعَها، وباطِنَهُ أقْبَحَ مِن صُورَتِهِ وأشْنَعَ، وبُدِّلَ بِالقُرْبِ بُعْدًا، وبِالرَّحْمَةِ لَعْنَةً، وبِالجَمالِ قُبْحًا، وبِالجَنَّةِ نارًا تَلَظّى، وبِالإيمانِ كُفْرًا، وبِمُوالاةِ الوَلِيِّ الحَمِيدِ أعْظَمَ عَداوَةٍ ومُشاقَّةٍ، وبِزَجَلِ التَّسْبِيحِ والتَّقْدِيسِ والتَّهْلِيلِ زَجَلَ الكُفْرِ والشِّرْكِ والكَذِبِ والزُّورِ والفُحْشِ، وبِلِباسِ الإيمانِ لِباسَ الكُفْرِ والفُسُوقِ والعِصْيانِ، فَهانَ عَلى اللَّهِ غايَةَ الهَوانِ، وسَقَطَ مِن عَيْنِهِ غايَةَ السُّقُوطِ، وحَلَّ عَلَيْهِ غَضَبُ الرَّبِّ تَعالى فَأهْواهُ، ومَقَتَهُ أكْبَرَ المَقْتِ فَأرْداهُ، فَصارَ قَوّادًا لِكُلِّ فاسِقٍ ومُجْرِمٍ، رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالقِيادَةِ بَعْدَ تِلْكَ العِبادَةِ والسِّيادَةِ، فَعِياذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِن مُخالَفَةِ أمْرِكَ وارْتِكابِ نَهْيِكَ.
وَما الَّذِي أغْرَقَ أهْلَ الأرْضِ كُلَّهم حَتّى عَلا الماءُ فَوْقَ رَأْسِ الجِبالِ؟ وما الَّذِي سَلَّطَ الرِّيحَ العَقِيمَ عَلى قَوْمِ عادٍ حَتّى ألْقَتْهم مَوْتى عَلى وجْهِ الأرْضِ كَأنَّهم أعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٌ، ودَمَّرَتْ ما مَرَّ عَلَيْهِ مِن دِيارِهِمْ وحُرُوثِهِمْ وزُرُوعِهِمْ ودَوابِّهِمْ، حَتّى صارُوا عِبْرَةً لِلْأُمَمِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ؟
وَما الَّذِي أرْسَلَ عَلى قَوْمِ ثَمُودَ الصَّيْحَةَ حَتّى قَطَعَتْ قُلُوبَهم في أجْوافِهِمْ وماتُوا عَنْ آخِرِهِمْ؟
وَما الَّذِي رَفَعَ قُرى اللُّوطِيَّةِ حَتّى سَمِعَتِ المَلائِكَةُ نَبِيحَ كِلابِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَها عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ عالِيَها سافِلَها، فَأهْلَكَهم جَمِيعًا، ثُمَّ أتْبَعَهم حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أمْطَرَها عَلَيْهِمْ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ العُقُوبَةِ ما لَمْ يَجْمَعْهُ عَلى أُمَّةٍ غَيْرِهِمْ، ولِإخْوانِهِمْ أمْثالُها، وما هي مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ؟ وما الَّذِي أرْسَلَ عَلى قَوْمِ شُعَيْبٍ سَحابَ العَذابِ كالظُّلَلِ، فَلَمّا صارَ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ أمْطَرَ عَلَيْهِمْ نارًا تَلَظّى؟

وَما الَّذِي أغْرَقَ فِرْعَوْنَ وقَوْمَهُ في البَحْرِ، ثُمَّ نَقَلَتْ أرْواحَهم إلى جَهَنَّمَ، فالأجْسادُ لِلْغَرَقِ، والأرْواحُ لِلْحَرْقِ؟ وَما الَّذِي خَسَفَ بِقارُونَ ودارِهِ ومالِهِ وأهْلِهِ؟ وَما الَّذِي أهْلَكَ القُرُونَ مِن بَعْدِ نُوحٍ بِأنْواعِ العُقُوباتِ، ودَمَّرَها تَدْمِيرًا؟ وَما الَّذِي أهْلَكَ قَوْمَ صاحِبِ يس بِالصَّيْحَةِ حَتّى خَمَدُوا عَنْ آخِرِهِمْ؟
وَما الَّذِي بَعَثَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ قَوْمًا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ، وقَتَلُوا الرِّجالَ، وسَبُوا الذُّرِّيَّةَ والنِّساءَ، وأحْرَقُوا الدِّيارَ، ونَهَبُوا الأمْوالَ، ثُمَّ بَعَثَهم عَلَيْهِمْ مَرَّةً ثانِيَةً فَأهْلَكُوا ما قَدَرُوا عَلَيْهِ وتَبَّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا؟ وَما الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أنْواعَ العُقُوباتِ، مَرَّةً بِالقَتْلِ والسَّبْيِ وخَرابِ البِلادِ، ومَرَّةً بِجَوْرِ المُلُوكِ، ومَرَّةً بِمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وخَنازِيرَ، وآخِرُ ذَلِكَ أقْسَمَ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَن يَسُومُهم سُوءَ العَذابِ﴾ [الأعراف:١٦٧].إهــ
هذا وقد جاء في كتاب الله ﷻ وسنة رسول الله  ما يؤكد هذه السنن، كما في قوله ﷻ: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[7].وقال ﷻ: ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾[8]. وقال ﷻ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[9]. وقال ﷻ: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾[10].
وفي الحديث يقول النبي ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسُ خِصَالٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: مَا ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى أَعْلَنُوا بِهَا إِلَّا ابْتُلُوا بِالطَّوَاعِينِ وَالْأَوْجَاعِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا ابْتُلُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ، وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَا خَفَرَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَعْمَلْ أَئِمَّتُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ»[11]
وأخرج الإمام أحمد في "الزهد" بسند صحيح عن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا فَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَرَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟ قَالَ: « وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ مَا أَهْوَنَ الْخَلْقِ عَلَى اللهِ إِذَا هُمْ تَرَكُوا أَمْرَهُ، بَيْنَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى »[12]. وقال عبد الله بن مسعود « إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ أُذِنَ بِهَلَاكِهَا »[13]. وقال عبد الرحمن بن سابط  : « إنما يؤذن في هلاك القرى إذا استحلوا أربعا: إذا نقصوا الميزان، وبخسوا المكيال، وأظهروا الزنا وأكلوا الربا. لأنهم إذا أظهروا الزنا أصابهم الوباء، وإذا أنقصوا الميزان وبخسوا المكيال مُنعوا القطر، وإذا أكلوا الربا جرد فيهم السيف»

يا إخوتي ويا أحبتي إن الذي أنزل الوباء هو الله ، وهو قادر على رفعه . فلنصلح حالنا مع الله  ، ثم الفرج موعدنا بإذن الله تعالى. وذلك بالتوبة النصوح وأن نعود إلى دين الله  بأصوله وفروعه -عقيدة وعبادة ومنهجا وسلوكا- وأن نلجأ إلى الله تعالى بالتضرع إليه، وكثرة الدعاء أن يرفع عنا ما نزل بنا، فإنه  قريب مجيب، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[14]. وعلينا أن نكثر من ذكر الله. خاصة في أذكار الصباح والمساء التي صحت عن النبي المختار ، كما علينا أن نكثر من الصدقات وبذل الإحسان، والأخذ بيد الفقراء والمحتاجين، فعن أنس  عن رسول الله  قال: «صَنائِعُ المَعْرُوفُ تَقِي مَصارِعَ السُّوءِ و الآفَاتِ و الهلكَاتِ ، و أهلُ المعروفِ في الدنيا هُمْ أهلُ المعروفِ في الآخرةِ»[15]و قال :«الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عباد الله بِالدُّعَاء»[16]

قال الإمام ابن القيم  : ومن أعظم علاجات المرض: فعل الخير والإحسان ، والذكر والدعاء، والتضرع والابتهال إلى الله والتوبة. ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولها وعقيدتها في ذلك ونفعِه[17].

ومن أسباب الفرج مما نحن فيه: الصبر؛ لأن الصبر مفتاح الفرج، وقد قال رسول الله « وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ»[18].ومن فقَدَ الصبر في الشدائد والمصائب فَقَدْ فَقَدَ خيرا كثيرا؛ لأنه -كما ذكرنا- مفتاح الفرج، والله تعالى يقول:﴿ 
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ [19]. وقال ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾[20] وأمر  المصاب بأنفع الأمور له وهو الصبر والاحتساب، فإن ذلك يخفف مصيبته ويوفر أجره. أما الجزع والتسخط والتشكي فيزيد في المصيبة ويذهب الأجر، فالصبر كله خير.

ولا ننسى الوقاية الحسية والأخذ بالأسباب مع التوكل على الله حق التوكل، فمن تمام التوكل على الله تعالى الأخذ بأسباب الوقاية.
ومن أسباب الوقاية الحجر الصحي، وهو عزل المريض بأي نوع من الأمراض المُعدية عن بقية الأصحاء طيلة مدة حضانة المرض، إلى أن تنتهي هذه المدة؛ وهذا مما سبق به الإسلام العالمَ كله بتقريره. إذ الحجر الصحي الذي صار حديثَ العالم في بداية القرن العشرين قد جاء في الحديث عن عبد اللَّه بن عباس : أَنَّ عُمَرَبْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ -أَبُوعُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ- فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا.فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ. فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ. فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ.
فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُوعُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خصبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخَصبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟
قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ- فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ : « إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ».قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ.[21]
فهذا الحديث أصل في فرض الحجر الصحي على المنطقة الموبوءة، ومن المقرر في الطب أنه إذا خرج شخص من المنطقة الموبوءة فإنه ينشر المرض، ولذا يجب منعُ الناس من السفر والانتقال من المنطقة الموبوءة.
فالحجر الصحي مع قيام مقتضاه جائزٌ في الشريعة، بل قد يكون من باب الوجوب محافظةً على صحة الآخرين، ولو كان في الحجر الصحي مضرةٌ ومفسدةٌ خاصةٌ إلا أننا نرتكبها لأننا ندفعُ به ضرراً عاماً ومفسدةً عامةً، وإذا تعارض ضرران رُوعيَ أشدُّهما بارتكاب أخفهما، ودرءُ المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح، والضررُ العامُ مقدمٌ على الضرر الخاص، والدليل عليه حديث عبدالرحمن بن عوفٍ السابق، وما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما"[22]أنه ﷺ قال: «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»أي لا يُؤتَى بمريضٍ على صَحيحٍ سَليمٍ؛ مخافَةَ أن يُعديَه.
وروى مسلم في "صحيحه" عن الشَّرِيد بن سويد الثقفي أنه كان في وَفْدِ ثَقِيفٍ رجل مَجْذُومٌ، فأرسل إليه النبي ﷺ: « إنَّا قدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ »[23]. [ورَجُلٌ مَجذُوم] أي مُصابٌ بِمَرَضِ الجُذَامِ، وهو مَرَضٌ مُعْدٍ، وأراد هذا المجذومُ أن يأتِيَ النبيَّ ﷺ لِيُبايِعَه على الإسلام والجِهاد، فأرسَلَ إليه النبيُّ ﷺ : [إنَّا قد بَايَعْناك] أي بالقولِ من غيرِ أخْذِ اليَدِ في العَهْدِ. وفيه دلالة على ترك المصافحة في هذه الحالة.
ولهذا فمن النصيحة: عدم المصافحة والتقبيل، والاكتفاء بالتحية من بعيد، وتجنب التجمُّعات الكبيرة في الأماكن العامة مثل الأسواق وغيرها، ولزوم البيوت وعدم الخروج منها إلا في الوقت المسموح بالخروج فيه.

وأخيرا أحذركم من أولئك الذين ينشرون الهلع والفزع والخوف والرعب بين الناس من فيروس كورونا، وذلك بنشر بعض الفيديوهات أو الصوتيات أو الإشاعات والأخبار الكاذبة.
وأقول: إن الناس ليسوا سواء، وإن هذا المتَّجَه ليس من دين الله البتة؛ لأن ديننا الإسلامي يحث على نشر الطمأنينة وبث السرور ونشر الأمل والتفاؤل بالخير وعدم اليأس والقنوط من رحمة الله ﷻ ، وفي الوقت نفسِه لا يجوز غض الطرف عن هذا الوباء أو التساهل في أمره، بحيث يؤدي ذلك إلى عدم الأخذ بالأسباب الواقية.
وختاما نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرفع عنا هذا الوباء والبلاء..
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ بك من عضال الداء وخيبة الرجاء وشماتة الأعداء..
اللهم إنا وقفنا ببابك فلا تطردنا، وإياك نسأل فلا تخيبنا، ورجاؤنا فيك عظيم أنت ربنا لا رب لنا سواك..
اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، إنك أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1]- [يس: ٨٢]؛
[2][التغابن: ١١]؛
[3][الحديد: ٢٢]؛
[4]- [التوبة: ٥١]؛
[5]- البداية والنهاية لابن كثير (۱٠/ ٧٦ )؛
[6]- (ص ٤٢)؛
[7][العنكبوت: ٤٠
[8]- [الشورى:٣٠] ؛
[9][الروم: ٤١]؛
[10][هود: ١٠١]؛
[11]رواه ابن ماجه: الفتن (٤٠١۹) وهو حديث حسن؛
[12]- (ص ١٧٦)؛
[13]- صحيح الجامع (٦٧۹)؛
[14]- [ البقرة: ١٨٦]؛
[15]- صحيح الجامع : (٣۹٧٥)؛
[16]- صحيح الترغيب والترهيب: (١٦٣٤).
[17]- الطب النبوي : (ص ١١٤)؛
[18]- صحيح البخاري : (۱٤٦۹)؛
[19]- [البقرة: ١٥٥.١٥٦]؛
[20]- [لقمان: ١٧]؛
[21]- صحيح البخاري: (٥٧٢۹)؛
[22]- البخاري: (٥٧٧١)ومسلم: (٢٢٢١)؛
[23]- مسلم: (٢٢٣١).


كتبها أخوكم ناصحا
أبو عبد الحليم محمد عبد الهادي

-عفا الله عنه وغفر لوالديه-
في الجزائر العاصمة ؛ ليلة الخميس ٢۹ من شعبان ۱٤٤١ هـــ
الموافق لــــ: ٢٣ أفريل ٢٠٢٠نصراني