مقال قاعدة في الموازنة بين الحسنات والمساوئ الشيخ محمد علي فركوس

قاعدة في الموازنة بين الحسنات والمساوئ
الأحد 11 سبتمبر 2016    الموافق لـ : 08 ذي الحجة 1437

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

ففي باب نقد الرِّجال وتقويمهم فإنَّ في مسألة الموزانة بين المحاسن والمساوئ أو في تعرُّض المنتقِد لذِكر محاسنهم دون مساوئهم أو بالعكس في تبيانه لمساوئهم وأخطائهم وغضِّ الطرف عن محاسنهم تفصيلاً يظهر في التفريق بين حالة النقد والردِّ والتحذير من شخصٍ استقرَّت بدعته ودعا إليها، وبُيِّن له خطؤه الذي علق به، واستمرَّ عليه بعد قيام الحُجَّة، بل نافح عليه ودافع واغترَّ الناس به، وبين ما إذا كان للتعريف به كشخصية إسلامية، وبيان واقعه، وتقويم كتبه ومؤلَّفاته.

فإن كان المجال مُهيّئًا لنقد المساوئ والأخطاء التي هو عليها من باب الردِّ والتقويم حذرًا من الوقوع فيها، ونصيحةً للناس من خطرها، والميل إلى أصحابها، فإنَّ هذا المقام لا يستدعي التعرُّض للحسنات؛ لأنَّ الغاية من وراء الردِّ تحذير الأُمَّة من أنواع الأباطيل، ومختلف التضليل، لئلاَّ يغترَّ بهم الناس، وذكر حسناتهم في هذا المجال يُضعف قيمةَ الردِّ، ويُهوِّن من خطر باطلهم، ويستدلُّ لذلك بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ!» وفي رواية: «بِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ»(١)، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: «بِئْسَ الخَطِيبُ أَنْتَ!»(٢)، فلم يتعرَّض صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لذكر حسناتهم، وكذلك عند استشارة فاطمةَ بنتِ قيسٍ له بخِطبة أبي جهم ومعاويةَ، فاكتفى بذكر بعض مآخذهم دون التعرُّض لحسناتهم، مع كونهم من صحابته رضي الله عنهم، فقال: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ؛ فَضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ؛ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ»(٣)، ونصحها بأن تَنْكِحَ أسامةَ، كذلك حين ذكرت هندُ بنتُ عُتبةَ زوجُ أبي سفيان للنبيِّ بأنّه «رجل شحيح»، فلم ينكر عليها بعدم ذكر محاسنه، وإنَّما أمرها بأن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف(٤). فليست -إذن- قاعدة الموازنة بين المحاسن والمساوئ عندالنقد مُطَّردة عند علماء الجرح والتعديل وليست منهجًا مسلوكًا لهم.

وحريٌّ بالتنبيه أنَّ غالب الأئمَّة يكتفون -في باب التجريح- بذكر سببٍ واحدٍ قادحٍ في العدالة؛ ذلك لأنَّ «الأصل في الأعراض التحريم»، كالدماء والأموال، كما في الحديث الثابت: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»(٥)، وفي آخر: «كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»(٦)، والجرح إنَّما أُجيزَ لضرورة تمييز الصحيح من السقيم، ومعرفةِ الثقة من الضعيف، والمقبول من المردود، و«الضرورة تقدَّر بقدرها»، كما هو مُقرَّر في القواعد. وعليه؛ فلا يجوز التجريح بسببين أو ذَنبين مهما أمكن الاكتفاء بأحدهما، أي: الاقتصار على أدنى ما تندفع به الضرورة(٧)، فضرورة بيان أحوال الرواة والدعاة ليس فيه غِيبة، وإنَّما في ذلك حفظ قواعد الدِّين بحفظ السُّنَّة وصيانتها من الدخيل، والعلماء استثنوا من الغِيبة أمورًا ستَّة، منها: التحذير للمسلمين من الاغترار، كجرح الرواة والشهود، ومن يتصدَّر للتدريس والإفتاء مع عدم أهليَّته، وكذلك من جاهر بالفسق أو بالبدعة فيجوز ذكرهم بما يجاهرون به دون غيره، للحديث الذي أخرجه مسلم: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ»(٨)، كالمكَّاسين وأهل الأهواء والْمُجُون والخلاعة. فالحاصل أنَّ الأمور الستّة المستثناة من الغِيبة قد جمعها بعضهم بقوله:

مُتَظَلِّمٍ وَمُعَرِّفٍ وَمُحَذِّرِ
طَلَبَ الإِعَانَةَ فِي إِزَالَةِ مُنْكَرِ
(٩)
 

 

القَدْحُ لَيْسَ بِغِيبَةٍ فِي سِتَّةٍ
وَلِمُظْهِرٍ فِسْقًا وَمُسْتَفْتٍ وَمَنْ
 

هذا؛ ولولا ضرورة التثبُّت والبحث لَمَا اقتحم هؤلاء العلماء هذا الباب الخطير، وما تجشَّموا من أجله أنواع الصعاب، ومختلف المكاره، كلُّ ذلك اعتقادًا راسخًا منهم أنَّ الكلام في الرواة وغيرِهم إنَّما هو وسيلةٌ لا غاية، باذلين قصارى جهودهم في تطبيق تلك القواعد التي التزموها منهجًا لهم في بيان الحقِّ، ولو على أنفسهم، مقتصرين على أحد الجوانب القادحة في العدالة التي تهمُّهم من غير توسُّعٍ، لأجل حفظ الدِّين والسُّنَّة مع مراعاة الحيطة في التجريح، والدِّقَّة في البحث، والنَّزاهة في الحكم، والأدب في نقد الرجال، وأن يكون بأمانة وإخلاص، الأمر الذي يقوِّي إيماننا باعتدالهم وتجرُّدهم واستقامتهم في نصحهم للمسلمين، والمحافظة على قواعد الدِّين، عملاً بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70-71]، ففي الآية دليلٌ على وجوب الحرص على إصابة الصواب، ويدخل في «القول السديد» الكلام المتضمِّن للنصح والتنبيه بما هو الأصلح، والإشارة إلى كُلِّ طريق يوصل إلى الصواب، والتماس كلِّ وسيلة تعين عليه، كما يشمل لين الكلام، ولطفه في مخاطبة الأنام، في ميدان النصح والإعلام، والدعوة والتعليم، كما يتناول «القول السديد» الزجر والتبكيت والغلظة في ميدان التحذير لمن جاهر ببدعته، ودعا إليها، ونافح عنها.

أمَّا الحالة الأخرى؛ وهي التعريف بشخصية المطروق إليه لعقد ترجمة له، والنظر في مؤلَّفاته وكتبه، وما تحتويه من مادَّة علمية؛ فإنَّه لا يمنع من التعرُّض إلى محاسنه، ومزايا كتبه، وبالمقابل ينظر في مساوئه والأخطاء والأغلاط التي وقع فيها، فيذكر ما له من حقٍّ ليثبته، وما عليه من باطل ليردَّه، وذلك بعد فهم معاني ما تضمَّنته كتبه وأقواله بأمانة ونزاهة وصِدق وإنصاف؛ ذلك لأنَّ «ردّ الشيء قبل فهمه محال» كما قال الشافعي(١٠)، و«التجنِّي على الحقِّ بسبب الباطل ظلمٌ»، وضمن هذا المنظور يقول الإمام ابن القيّم: «...فلو كان كُلُّ من أخطأ، أو غلط تُرِك جملةً، وأُهدرت محاسنه لفسدت العلوم، والصناعات، والحكم، وتعطَّلت معالمها»(١١).

فواجب الإنصاف -إذن- قَبول ما معه من حقٍّ، وترك ما عليه من باطل، وقد أمر الله تعالى بالعدل في الأقوال، كما أمر بالعدل في الأحكام في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام: 152]، وفي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا، اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ [النساء: 58].

والواجب على المسلم الابتعاد عن تشويه الحقِّ والتنفير منه، بأن يتحرَّى العدل في كُلِّ شأنه، ليكون العدل خُلُقًا له، ووصفًا لا ينفكُّ عنه، قال تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]، وفي الحديث: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا»(١٢). وفي هذا السياق يقول ابن أبي العزّ الحنفي: «نجد كثيرًا من هؤلاء -أي: الذين يختلفون اختلاف التضادّ- قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه في حقٍّ ما، أو معه دليلٌ يقتضي حقًّا ما، فَيَرُدُّ الحقَّ مع الباطل، حتَّى يبقى مُبطِلاً في البعض، كما كان الأوّل مبطلاً في الأصل، وهذا يجري كثيرًا لأهل السنَّة، أمَّا أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر، ومن جعل الله له هدايةً ونورًا رأى من هذا ما تَبيَّن له منفعة ما جاء في الكتاب والسنّة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحة تُنْكِر هذا، لكن نور على نور»(١٣).

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

 

الجزائر في: 29 جمادى الثانية 1429ﻫ
الموافق ﻟ: 03 جويلية 2008م


 

١- أخرجه مالك في «الموطّأ»: (4/96) في حسن الخلق، وأحمد: (6/38)، والبخاري: (10/452) في الأدب، باب لم يكن النبيّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فاحشًا ولا متفحِّشًا، ومسلم: (16/144) في البرِّ، باب مداراة من يتَّقى فحشه، وأبو داود: (5/145) في الأدب، باب في حسن العشرة من حديث عائشة رضي الله عنها.

٢- أخرجه مسلم: (6/159) في الجمعة، باب صلاة الجمعة وخطبتها، وأبو داود رقم: (1096) في الصلاة: باب الرجل يخطب على قوس، والنسائي: (6/90) في النكاح: باب ما يكره من الخُطبة، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.

٣- أخرجه مالك في «الموطّأ»: (2/98) في الطلاق: باب ما جاء في نفقة المطلقة، وأحمد: (6/411). ومسلم: (10/94-98) في الطلاق: باب المطلَّقة البائن لا نفقة لها، وأبو داود: (2/712) في الطلاق: باب في نفقة المبتوتة، والترمذي: (3/441) في النكاح: باب ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، والنسائي: (6/73، 87) في النكاح: باب خطبة الرجل إذا ترك الخاطب أو أذن له، وباب إذا استشار رجل رجلاً في المرأة هل يخبره بما يعلم من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.

٤- أخرجه البخاري: (5/107) في المظالم: باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه، ومسلم: (12/7) في الأقضية: باب قضية هند من حديث عائشة رضي الله عنها.

٥- أخرجه البخاري: (10/7) في الأضاحي: باب من قال الأضحى يوم النحر، ومسلم: (11/167) في القسامة: باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

٦- أخرجه أحمد: (2/227)، ومسلم: (16/120-121) في البرِّ والصلة والآداب: باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، والترمذي: (4/325) في البرِّ والصلة: باب ما جاء من شفقة المسلم على المسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

٧- انظر ما نقله محمَّد عجَّاج الخطيب عن الإمام السخاوي في «فتح المغيث» من كتابه «الوجيز في علوم الحديث ونصوصه»: (237-238).

٨- أخرجه البخاري: (10/486) في الأدب: باب ستر المؤمن على نفسه. ومسلم: (18/119) في الزهد: باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

٩- «سبل السلام»: للصنعاني (4/370)، «نهاية المحتاج» للرملي: (6/205).

١٠- «المستصفى»: للغزالي (1/274)، «الإبهاج» للسبكي: (3/188).

١١-  «مدارج السالكين» لابن القيّم: (2/39).

١٢- أخرجه أحمد: (2/160)، ومسلم: (12/211) في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، والنسائي: (8/221) في آداب القضاة: باب فضل الحاكم العادل من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

١٣- «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز: (2/779).