إن الله تبارك وتعالى الرحمن الرحيم أوصى عباده بتقواه التي بها يحصِّلون السعادة في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وينالون رضاه والفوز بدار كرامته والسلامة من ناره وعذابه ، وهي وصيته سبحانه للأولين والآخرين من خلقه قال تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } [النساء:131] ، وقد شرع سبحانه لعباده صيام شهر رمضان المبارك لتحقيق تقواه ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني بالصوم لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات ، فما شُرع صيام هذا الشهر الكريم إلا لتحقيق التقوى ؛ بل إنه من أكثر ما يعين على تحقيقها ، قال ابن القيم رحمه الله : (( وللصوم تأثيرٌ عجيب فى حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحِميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها ، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها ؛ فالصومُ يحفظ على القلب والجوارح صحتها ، ويُعيد إليها ما استلبته منها أيدى الشهوات، فهو من أكبر العونِ على التقوى كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:183] ))(1) اهـ .
وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره لقوله{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }: (( فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه ، فمما اشتمل عليه من التقوى:
وتقوى الله هي طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ومعنى التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافُهُ وقايةً، وتقوى العبد لربه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه ، وذلك لا يكون إلا بفعل طاعته واجتناب معصيته .
والله عز وجل تارةً يأمر بتقواه فهو الذي يُخشى ويُرجى وكل خيرٍ يحصل للعباد فهو منه سبحانه ، وتارةً يأمر باتقاء النار التي هي مآل من خالف تقواه واتبع هواه كما قال تعالى :{ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [البقرة:24] ، وكقوله سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم:6] ، وتارةً يأمر باتقاء يوم القيامة يوم الحساب والجزاء والسعادة أو الشقاء ؛ اليوم الذي ينال فيه المتقون ثوابهم والمجرمون المخالفون للتقوى عذابهم وعقابهم كما قال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [البقرة:281] .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بتقوى الله وإذا أرسل سرِيَّةً يوصي أميرها في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه خيراً ، ولما خطب يوم النحر في حجة الوداع أوصى الناس بتقوى الله لحاجة الناس إلى هذه الوصية ولعظيم أهميتها وفائدتها .
ولقد اعتنى السلف الصالح بتحقيق التقوى في نفوسهم وتوضيح معناها ومبناها ولم يزالوا يتواصون بها ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : " الْمُتَّقَونَ : الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ فِي التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ " . وقال الحسن البصري رحمه الله : " الْمُتَّقُونَ اتَّقَوْا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ ، وَأَدَّوْا مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ " . وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : " لَيْسَ تَقْوَى اللهِ بِصِيَامِ النَّهَارِ وَلاَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَالتَّخْلِيطِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ تَقْوَى اللهِ: تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللهُ ، وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ الله " . وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى{ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }[آل عمران:102] قال : " أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى ، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى ، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ " ، وقال طلق بن حبيب: " التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ تَرْجُو ثَوَابَ اللهِ ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ تَخَافُ عِقَابَ الله "(2) ، ولما قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : اتق الله، أجابه عمر بقوله: " لَا خَيْرَ فِيكُمْ إِنْ لَمْ تَقُولُوهَا، وَلَا خَيْرَ فِينَا إِذَا لَمْ نَقْبَلْهَا " .
والتقوى محلها القلب ، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ))(3) ، يقول ابن رجب رحمه الله : " وإذا كان أصلُ التَّقوى في القُلوب ، فلا يطَّلعُ أحدٌ على حقيقتها إلا الله عز وجل ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)) -أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفي رواية ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ)) (4) - وحينئذٍ فقد يكون كثيرٌ ممن له صورة حسنة أو مال أو جاه أو رياسة في الدنيا قلبه خراباً من التقوى ، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبُه مملوءاً من التقوى، فيكون أكرم عند الله عز وجل ، بل ذلك هو الأكثر وقوعاً " (5) اهـ.
وللتقوى عوائد عديدة وثمار كثيرة يجنيها المتقون في الدنيا والآخرة فمن ثمراتها في الدنيا:
وأما ثمرات التقوى في الآخرة فهي كثيرة وعديدة منها :
فنسأل الكريم رب العرش العظيم ونحن في هذا الموسم العظيم والشهر الكريم أن يزيِّن قلوبنا بزينة التقوى وأن يجعلها لنا زاداً في هذه الدنيا ويوم نلقاه.
*****
-----------------
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد (فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الصيام ، ص: 201).
(2) أورد ابن رجب رحمه الله هذه الآثار عن السلف رحمهم الله في جامع العلوم والحكم (الحديث الثامن عشر/ ص: 296-297).
(3) صحيح مسلم (2564).
(4) كلا الروايتين أخرجها مسلم برقم (2564).
(5) جامع العلوم والحكم لابن رجب (الحديث الخامس والثلاثون / ص: 626).