مقال تقريب الأفهام إلى ما في مباحث النية من الأحكام3 الشيخ محمد علي فركوس

تقريب الأفهام إلى ما في مباحث النية من الأحكام3
الأحد 11 سبتمبر 2016    الموافق لـ : 08 ذي الحجة 1437

المبحث الثالث: في التفريق بين العبادات المفتقرة إلى نية وغيرها

 

المطلب الثاني: التروك

المراد بالترك -لغةً- الطرح أو التخلية والدَّعَة، أي إهمال الشيء ومفارقة ما يكون العبد فيه، وإمَّا تركُه الشيءَ رغبةً عنه من غير الدخول فيه(١).

والمعتمد من قول الفقهاء أنَّ النواهيَ من باب التروك، إذ يطلقون أفعال التروك على ما نُهي عن فعله(٢)، فإنَّ المكلَّف يخرج من عهدة النهي بتركه وعدم القصد إليه وإن لم يشعر. قال القرافي -رحمه الله-: «المطلوب شرعًا: إما نواهٍ أو أوامرُ، فالنواهي كلُّها يخرج الإنسان عن عهدتها بتركها وإن لم يشعر بها فضلاً عن القصد إليها»(٣).

ومذهب جمهور الأصوليين أنَّ الترك فعلٌ خلافًا لأبي هاشمٍ الجبَّائي(٤) الذي يرى أنَّ الترك ليس بفعلٍ، واستدلَّ على ذلك «بأنَّ من دُعِيَ إلى الزنا ولم يفعله فإنَّ العقلاء يمدحونه على أنه لم يَزْنِ من غير أن يخطر ببالهم فعلُ ضدِّ الزنا، فعلمْنا أنَّ هذا العدم يصلح أن يكون متعلَّق التكليف»(٥).

والصحيح مذهب الجمهور من أنَّ الترك فعلٌ، ويدلُّ عليه الكتاب والسنَّة وكلام العرب والمعقول:

- أمَّا بالكتاب: فبقوله تعالى: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: 63]، فقد سمَّى الله تعالى تَرْك النهي صنعًا، والصنع أخصُّ من مطلق الفعل.

وبقوله تعالى: ﴿كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 79]، وفي هذه الآية تسمية عدم التناهي عن المنكر فعلاً.

واستدلَّ السبكي(٦) على أنَّ الترك فعلٌ بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30] حيث قال: «الأخذ التناول، والمهجور المتروك، فصار المعنى تناولوه متروكًا أي: فعلوا تَرْكَه»(٧).

- أمَّا بالسنَّة فقد سمَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تَرْكَ الأذى وما لا يعني المسلمَ إسلامًا في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»(٨)، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ»(٩).

- أمَّا بكلام العرب فبقول الراجز من الصحابة وقت بنائه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لمسجده بالمدينة(١٠):

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ  لَذَاكَ مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّلُ

فسمَّى قعودَهم عن العمل وترْكَهم الاشتغالَ ببناء المسجد عملاً مضلَّلاً(١١).

- أمَّا بالمعقول فلأنَّ النهي تكليفٌ بمقدورٍ، والعدم الأصلي نفيٌ محضٌ ليس بمقدورٍ لا يدخل في وُسْعه، لذلك كان لزامًا أن يكون له أثرٌ وجوديٌّ من جهةٍ، ولأنَّ العدم الأصليَّ حاصلٌ باستمراره -من جهةٍ أخرى-، والحاصل لا يمكن تحصيله ثانيًا، وإذا ثبت أنَّ مقتضى النهي ليس العدمَ فإنَّ العقلاء إنما يمتدحونه على الترك من جهةِ كونِ امتناعه عن الفعل أمرًا وجوديًّا ينافي المنهيَّ عنه وهو فعلُه الضدَّ، وهو تركُ ما نُهِيَ عنه فحصل المطلوب(١٢).

هذا، وإذا تقرَّر أنَّ الترك فعلٌ فإنَّ مذهب جمهور العلماء أنَّ التروك لا تفتقر إلى نيَّةٍ(١٣)، ذلك لأنَّ الترك هو اجتناب المنهيِّ عنه، فيخرج المكلَّف من عهدة الامتثال ولو لم تخطر المناهي بباله، إذ إنَّ استحضار النواهي واستذكار نيَّة الاجتناب على وجه اللزوم تكليفٌ بمشقَّةٍ وهي مرفوعةٌ بنصِّ قوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].

أمَّا مذهب بعض أصحاب الشافعيِّ وأحمد فيعتبرون النيَّة في الترك عملاً بالقياس على الأفعال المأمور بها كرفع الحدث، ولا شكَّ أنَّ هذا القياس ظاهر البطلان للفرق بين طهارة الحدث التي هي من باب الأفعال المأمور بها وبين طهارة الخبث فإنها من باب التروك فمقصودها اجتناب الخبث، وقد اعتبر ابن تيمية -رحمه الله- هذا القول شاذًّا مخالفًا للإجماع مع مخالفته لأئمَّة المذاهب(١٤).

هذا، وما تقرَّر عند عامَّة أهل العلم أنَّ الترك لا يحتاج إلى نيَّةٍ، إلاَّ أنَّ تحقيق المسألة يحتاج إلى التفصيل التالي:

أنَّ المكلَّف -وإن كان يحصِّل بنيَّته العامَّة الأجرَ والثواب على عموم امتثال الأوامر واجتناب النواهي- إلاَّ أنه إن ترك خصوص المنهيِّ عنه من غير قصد التقرُّب فلا إثابة على الترك المجرَّد، لأنَّ الإثابة إنما تكون على المقصود المنويِّ، أمَّا إذا كان الترك بمعنى كفِّ المرء نفْسَه بإرادةٍ وقصدٍ فيُعَدُّ تركُه فعلاً، كمن يكفُّ نفسه وشهوته عن الأكل والشرب والجماع في نهار رمضان أو عن الزنا والسرقة وشرب الخمر حالَما أمرتْه نفسُه بمخالفة المأمور شرعًا، فيصير كفُّه فعلاً مأجورًا عليه ومُثابًا لأنه تركٌ مقصودٌ ومرادٌ.

أمَّا ما عدا هذا من التروك التي لا تخطر بالبال ولا تدور في الخيال فاجتنابها لا يحتاج إلى نيَّةٍ ولا يقع الثواب على الترك إلاَّ إذا كان كفًّا. قال ابن حجرٍ -رحمه الله-: «والتحقيق أنَّ الترك المجرَّد لا ثواب فيه وإنما يحصل الثواب بالكفِّ الذي هو فعلُ النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلاً ليس كمن خطرت فكفَّ نفْسَه عنها خوفًا من الله تعالى، فرجع الحال إلى أنَّ الذي يحتاج إلى النيَّة هو العمل بجميع وجوهه لا الترك المجرَّد»(١٥). وضمن هذا المعنى نفسه قال ابن نجيمٍ(١٦) -رحمه الله-: «حاصله أنَّ ترْكَ المنهيِّ عنه لا يحتاج إلى نيَّةٍ للخروج عن عهدة النهي، وأمَّا لحصول الثواب: فإن كان كفًّا، وهو أن تدعُوَه النفس إليه قادرًا على فعله فيكفُّ نفسه عنه خوفًا من ربِّه فهو مُثابٌ، وإلاَّ فلا ثواب على تركه، فلا يُثاب على ترك الزنا وهو يصلِّي، ولا يُثاب العنِّين على ترك الزنا، ولا الأعمى على ترك النظر إلى المحرَّم»(١٧).

وعليه، فإنَّ عموم المنهيَّات تصير عباداتٍ يُثاب عليها إذا ما كفَّ تاركُها نفسه عنها قصدًا، وهي مشمولةٌ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(١٨).

هذا، ونظير هذه المسألة: إزالة النجاسات من البدن والثوب والمكان، فإنها -وإن كانت متردِّدةً بين الأفعال من حيث إنها فعلٌ، والتروكِ من حيث إنها قريبةٌ منها- فقد رجَّح الأكثرون عدمَ اشتراط النيَّة فيها لمشابهتها أفعالَ التروك، خلافًا لمن عدَّ إزالةَ النجاسات من باب المأمور الذي أوجبه الله تعالى وهو التطهُّر من الخبث فتحتاج صورتها في تحصيل مصلحتها إلى النيَّة(١٩).

والأشبه التفصيل ووجهه: أنَّ إزالة عين النجاسات لا تجب فيها النيَّة ولا تفتقر إليها لكونها حسِّيَّةً داخلةً في باب التروك لا في باب الأعمال، فلا يُشترط فيها إرادة العبد وعملُه، لأنَّ المقصود منها اجتناب الخبث، فلو زالت بالمطر النازل من السماء أو بسقوط الثوب المتنجِّس في ماء البحر أو النهر أو البئر بفعل الريح أو غيره حصل المقصود بغير نيَّةٍ، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «أنَّ النجاسة من باب ترك المنهيِّ عنه فحينئذٍ إذا زال الخبث بأيِّ طريقٍ كان حصل المقصود ولكن إن زال بفعل العبد ونيَّته أثيب على ذلك وإلاَّ إذا عُدمت بغير فعله ولا نيَّته زالت المفسدة ولم يكن له ثوابٌ ولم يكن عليه عقابٌ»(٢٠).

- ونظيره: غَسْلُ الميِّت، فمن رأى منه قصْدَ التنظيف اعتبره كإزالة النجاسة في الحكم، فلا يشترط فيه النيَّة لشبهه بالتروك، ومن قاس غَسْلَ الميِّت على غُسْل الجنابة الواجبةِ فيه النيَّةُ عند الجمهور(٢١) بجامع الطهارة راعى فيه جانب العبادة والوجوب، واشترط فيه النيَّة(٢٢).

والاستظهار بالقياس غير ناهضٍ للفرق بينهما من ناحيةِ كونه قياسًا على طهارةٍ حكميةٍ، فمشروعية تغسيل الميِّت تنافي جنابتَه إذ لا معنى لرفع الجنابة عنه، وتنافي نجاستَه لأنَّ الحرمة تنافي النجاسة(٢٣)، ولأنه يُكتفى في رفع الجنابة بالغسل الواحد بخلاف تغسيل الميِّت، فقد ثبت في حديث أمِّ عطيَّة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمرهن أن يغسلْنَ ابنته زينب رضي الله عنها فقال: «اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ»(٢٤)، فأوكل إليهنَّ أمْرَ تكثير الغَسْل بالنظر إلى الحاجة إليه ولا يكون إلاَّ بقصد التنظيف إذ الميِّتة طاهرةٌ. قال السيوطي -رحمه الله-: «لأنَّ النيَّة إنما هي على المغتسل، والميِّت لا يُتصوَّر منه، والمقصود من غَسْله النظافة فأشبه غَسْل النجاسة»(٢٥).

وعليه، فيتحقَّق غَسْلُ الميت من غير اشتراط النيَّة للحوقه بأفعال التروك، وإنما وجودُ النيَّة للإثابة والأجر.

- ونظيره: الخروج من الصلاة لا يُشترط فيه النيَّة على الأصحِّ لكونه أليقَ بالترك لا بالإقدام(٢٦).


 

١- انظر: «الكلِّيَّات» لأبي البقاء (298)، «مختار الصحاح» للرازي (77)، «المعجم الوسيط» (1/ 84).

٢- انظر: «القواعد الفقهية الكبرى» للسدلان (85).

٣- «الأمنية في إدراك النيَّة» للقرافي (6).

٤- هو أبو هاشمٍ عبد السلام بن شيخ المعتزلة أبي عليٍّ محمَّد بن عبد الوهَّاب الجبَّائي، تُوفِّي سنة (321ﻫ). انظر ترجمته في مؤلَّفنا: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (208).

٥- «الإبهاج في شرح المنهاج» للسبكي وابنه (2/ 71).

٦- هو أبو نصرٍ تاج الدين عبد الوهَّاب بن عليِّ ين عبد الكافي السبكي، تُوفِّي سنة (771ﻫ). انظر ترجمته في مؤلَّفنا: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (234).

٧- «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (1/ 100).

٨- أخرجه البخاري في «الإيمان» باب: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (10) من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، ومسلم في «الإيمان» (41) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

٩- أخرجه الترمذي في «الزهد» (2317) وابن ماجه «الفتن» باب كفِّ اللسان في الفتنة (3976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الترمذي في «الزهد» (2318) من حديث عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالبٍ مرسلاً، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (5911).

١٠- انظر: «البداية والنهاية» لابن كثير (3/ 216).

١١- انظر: «مذكِّرة الأصول» للشنقيطي (38، 39).

١٢- انظر: «الإبهاج» للسبكي وابنه (2/ 71)، و«نهاية السول» للإسنوي (2/ 85).

١٣- انظر: «شرح البخاري» للعيني (1/ 32)، «مواهب الجليل» للحطَّاب (1/ 160)، «منتهى الآمال» للسيوطي (123).

١٤- انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (21/ 477)، وممَّن نقل الإجماع البغوي وابن القصَّار وابن الصلاح وغيرهم [انظر: «المجموع» للنووي (1/ 311)، و«مواهب الجليل» للحطَّاب (1/ 160)].

١٥- «فتح الباري» لابن حجر (1/ 15).

١٦- هو زين الدين بن إبراهيم بن محمَّدٍ الشهير بابن نُجَيْمٍ، فقيهٌ حنفيٌّ، جمع إلى جانب الصفات العلمية فضائلَ خلقيةً، له عدَّة مؤلَّفاتٍ منها: «الأشباه والنظائر»، و«البحر الرائق في شرح كنز الدقائق»، «الرسالة الزينية في المسائل الحنفية»، و«شرح المنار ولبّ الأصول»، تُوفِّي سنة (970ﻫ).

انظر ترجمته في: «الكواكب السائرة» للغزِّي (3/ 154)، «شذرات الذهب» لابن العماد (8/ 358)، «الفتح المبين» للمراغي (3/ 78)، «الأعلام» للزركلي (3/ 104)، «أصول الفقه، تاريخه ورجاله» لشعبان محمَّد إسماعيل (471).

١٧- «الأشباه والنظائر» لابن نجيم (21).

١٨- أخرجه البخاري في «بدء الوحي» باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ (1) من حديث عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.

١٩- انظر: «المجموع» للنووي (1/ 310)، «الأشباه والنظائر» (12) و«منتهى الآمال» (123) كلاهما للسيوطي، «مواهب الجليل» للحطَّاب (1/ 160).

٢٠- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (1/ 430) وانظر (18/ 258).

٢١- انظر: وجوب النيَّة في الوضوء والغُسل عند الجمهور في: «بداية المجتهد» لابن رشد (1/ 18)، «المغني» لابن قدامة (1/ 110).

٢٢- انظر: «الأشباه والنظائر» (12) و«منتهى الآمال» (107) كلاهما للسيوطي.

٢٣- «القواعد» للمقَّرِّي (260)، «مواهب الجليل» للحطَّاب (1/ 99).

٢٤- أخرجه البخاري في «الجنائز» باب غَسْل الميِّت ووضوئه بالماء والسدر (1253)، ومسلم في «الجنائز» (939)، من حديث أمِّ عطيَّة الأنصارية رضي الله عنها.

٢٥- «منتهى الآمال» للسيوطي (107).

٢٦- «الأشباه والنظائر» للسيوطي (12).