اطلعت على ما كتبه المالكي في العدد الماضي من مجلة اليمامة بتاريخ 19 /6 / 1412 هـ فيما يتعلق بالموضوع المثار على صفحاتها بين فضيلة الشيخ الدكتور صالح الفوزان والدكتور الحامد.
ولقد أساءني كثيراً هذا الإطناب في هذه القضية أمام العام والخاص. وكان حقها ألا تطرح إلا في أندية خاصة بأهل الفكر.
وقد تدخل في النزاع بين الدكتورين طرف ثالث، رأيت لزاماً عليَّ الإدلاء بما تردد في صدري طيلة وقت هذا الجدل. فأقول ـ طارقاً للموضوع من معايير أخرى غير التي طرحها المالكي:
إن مما لا مراء فيه بين عالمين من العلماء المبرزين، منذ عرفت «المتون العلمية»: ضرورة تأصيل الطالب المبتدئ في كل علم من العلوم التي تخدم تخصصه، وما بزغ نجم عالم إلا بقوة التأصيل، وما أفلت نجوم أقوام إلا بضعف التأصيل.
ومن خلال الاستقراء لتراجم علماء الأمة، ندرك أن معنى التأصيل هنا العناية الفائقة بمتون العلم حفظاً، أو مطالعة، وفهماً. ففي ترجمة وكل عالم يذكر أنه حفظ في مبدأ طلبه متناً في فقه مذهبه ومتناً في الحديث، والأصول، والقواعد، والنحو.. وهكذا. فهذه مرحلة أولية لنيل العلم وتحصيله يعقبها مرحلة ثانية هي: ـ النظر في شروح هذه المتون، وتحليل عباراتها، ومعرفة مآخذها تدليلاً وتعليلاً. يعقبها مرحلة ثالثة وهي: النظر في الخلاف القوي بين العلماء في مسائل هذه المتون، ومحاولة ترجيح أحد القولين على الآخر، لصحة حجته ووجهته. ويعقب ذلك مراحل يتقلب فيها الطالب إلى أن يصل مرحلة الاجتهاد.
كل هذا ـ في الجملة ـ منهج علمائنا معشر المسلمين، ما يربو على عشرة قرون من الزمان، يبدؤون بصغار العلم قبل كباره، وبمتونه قبل مطولاته، متخذين طريقة التدرج في كل ذلك. وقد ثبت أن هذه الوسيلة لأخذ العلم أجدر من الوسيلة الغربية التي تفرخ أنصاف علماء، وتلدهم مشوهين غالباً.
وبعد هذا التمهيد أقول ـ لقد تجنى المالكي جناية عظيمة على كتاب اعتمده العلماء منذ أربعة قرون أو ما يزيد، يحفظونه، ويدرسونه، ويشرحونه وهذا التجني إنما هو صادر من عدم معرفة بوسائل التعلم الأثرية، ولو أن الكاتب أدرك أولاً ـ أنه لا يسلم كتاب من نقد سوى كتاب الله تعالى.
وأدرك ثانياً ـ أن هذا الكتاب ـ وما شابهه من المتون ـ إنما هو للمرحلة الابتدائية في الطلب، وهي المرحلة التي لا يكلف ـ بل لا يجوز ـ لصاحبها: تعليم الناس، وافتاؤهم، إلا عند عدم وجود غيره.
وأدرك ثالثاً ـ أن هذا الكتاب ونحوه إنما ألف لجمع ذهن الطالب، حتى يمتلك أساساً قوياً يبني عليه شاهقات المسائل.
وأدرك رابعاً: أن هذا المتن لا يخرج عما قرره الإمام أحمد في مسائله، أو خرجه الأصحاب على كلامه، وما هو إلا اختصار لكتاب معتمد المذهب ابن قدامة المقدسي المسمى «المقنع».
وأدرك خامساً: ضرورة ربط الطالب في مبدأ أمره بمذهب من المذاهب الأربعة، كما قرره ذلك المحققون من العلماء قولاً وعملاً، كالذهبي في «سير أعلام النبلاء» ج 8 / 9 وابن الجوزي في «صيد الخاطر» ص 167 وابن سعدي في «الفتاوى» ص30.
وأدرك سادساً: طبيعة التكوين الفقهي للمذاهب الإسلامية، ومراتب التصنيف فيها، وطريقة المصنفين لها.
أقول: لو أدرك هذا الكاتب هذه المدارك لما وقع في هذه الجناية، ولكنه ضعف علمه، وقصر نظره (ولا يجني جان إلا على نفسه) ودفاعاً عن مبادئنا التعليمية العريقة، ألقي الضوء على بعض انتقاداته لمتن «الزاد» وقبل هذا أقول: ـ إن جل ما زعمه أخطاء في الكتاب، إنما هو من «المسائل الاجتهادية» التي تتجاذبها أدلة التشريع. وقد تتكافأ هذه الأدلة من حيثيات متعددة، عندئذ لا يعاب على عالم أخذه بقول تبين له رجحانه، كما لا يعاب على عالم خالفه فأخذ بالقول الثاني لتبين رجحانه في نظره. وقد لا تتكافأ هذه الأدلة، فالسبيل إذاً اعتماد القول البين رجحانه، وطرح ما خالفه. ولا يعاب على عالم أخذ بالقول المرجوح عندنا، بعد أن تبين له صحته، وإلا لزم إلصاق العيب بأبي حنيفة، والشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من الأئمة. ولعل كتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» يجلي هذا البحث أكثر.
أما عن تفصيل الانتقاد فإن المالكي تعقب «الزاد» في أربع وعشرين مسألة، وعنده مزيد، وإليك عرض بعض هذه الانتقادات: ـ
الانتقاد الأول: ـ مسألة مسح الوجه بعد الدعاء، اختلف فيها العلماء فمن قال بجوازها وحسن الحديث الوارد فيها قال بالمشروعية. وقد قال الحافظ ابن حجر في «البلوغ» على حديث عمر هذا ـ وله شواهد، ومجموعها يقضي بأنه حديث حسن. قال الصنعاني في «سبل السلام» 4/430: وفيه دليل على مشروعية المسح اهـ . ومن ضعف الحديث من العلماء لم يقل بجوازها. فيا مالكي هل هذا الخطأ يوجب انتقاداً؟
الانتقاد الثاني: مسألة وضع اليدين في الصلاة حال القيام، اختلف فيها العلماء، فمنهم من رجح وضعها على الصدر، اعتمادًا على حديث وائل ابن حجر، وقد أشار العلامة ابن القيم رحمه الله في «البدائع» ج 3/91، إلى نكارته وضعفه. ومنهم من رجح حديث علي في وضعها تحت السرة، وهو حديث ضعيف، فما الذي يعاب على عالم صحح حديث عليّ وعمل به، وضعف حديث وائل. وما الذي يعاب على من عكس القضية إذا كان ذلك عن اجتهاد وبذل وسعي في طلب الحق؟ على أن حديث علي ممن صححه ابن القيم في المرجع السابق.
الانتقاد الثالث: ـ مسألة زكاة الحلي. فإن ما ذهب إليه صاحب «الزاد» هو مذهب جماهير المسلمين من المالكية والشافعية، والحنابلة. وهو رأي المحققين من العلماء، كالنووي وابن القيم، ومفهوم كلام شيخ الإسلام، والشوكاني، وابن سعدي، ومحمد بن إبراهيم، وابن حميد.
وقد انتصر لهذا القول بمؤلفات عديدة. فكيف تجرأ هذا الرجل على عيب «متن الزاد» لقوله بعدم الوجوب؟ أفتعاب مؤلفات هؤلاء الأئمة لقولهم بعدم الوجوب؟
الانتقاد الرابع: ـ زعم هذا الرجل أن «متن الزاد» ينص على عدم الإجزاء إذا رمي بغير حصى وادي محسّر. وهذا غاية الجهل بكلام العلماء؛ فإن قول صاحب الزاد: ـ (ولا يجزئ الرمي بغيرها) يرجع الضمير فيه إلى جنس الحصى، لا إلى حصى وادي محسّر. ثم إنه نص على مشروعية الاسراع في هذا الوادي، فكيف يقول بالتقاط الحصى منه؟ فيا مالكي ـ ألا تفهمت العبارة قبل نقدها، وسألت قبل الحكم، فإن شفاء العي السؤال.
الانتقاد الخامس: مسألة الإحرام بعد ركعتين. ظن المالكي أن صاحب الزاد يرى أنهما شرط في الإحرام، وليس كذلك، بل نص الزاد أنها سنة. والراجح استحباب الاحرام بعد الفريضة تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي: والذي يستحبه أهل العلم أن يحرم دبر الصلاة. اهـ قال البغوي: عليه العمل عند أكثر العلماء. اهـ ومن قال من العلماء كصاحب الزاد: أنه يستحب بعد ركعتين؛ فإن أراد الفريضة فلا إشكال، وإن أراد نافلة، فهذا اجتهاد في الحاق النافلة بالفريضة، تحصيلاً للتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم عندما أحرم دبر الصلاة المكتوبة. فلمن قال به: أجر الاجتهاد.
هذا ولو تتبعنا انتقاداته ومزاعمه لطال المقام، واتسعت دائرة الكلام، ولكن اكتفينا بما ذكر، تنبيهاً على ما لم يذكر.
وأخيراً نقول للمالكي: أعطنا كتاباً ـ غير كتاب الله ـ لا نقد عليه.
عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم
المعهد العالي للقضاء الرياض