خطبة صفة العمرة والحج - تحريم أخذ الشعر والأظافر والبشرة في العشر الأولى من ذي الحجة لمن أراد أن يضحي لا الشيخ محمد بن صالح العثيمين

صفة العمرة والحج - تحريم أخذ الشعر والأظافر والبشرة في العشر الأولى من ذي الحجة لمن أراد أن يضحي لا
السبت 1 جانفي 2000    الموافق لـ : 24 رمضان 1420
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

الخطبة الأولى

 

السلام عليكم ورحمة الله و بركاته

الحمد لله الذي بعث محمداً بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين وحجة على العباد أجمعين، واختار له ديناً قيماً مبنياً على الإخلاص والتيسير، فليس في دين الله حرج ولا شدة ولا تعقيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلَقَ فأتقَنَ وشرعَ فأحكَمَ وهو خير الحاكمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً .

أما بعد:

أيها الناس، فإنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى بيت الله الحرام، ترجون من ربكم مغفرة الذنوب والآثام، وتأملون الفوز بالنعيم المقيم في دار السلام، و تأملون بالخلف  العاجل لذي الجلال والإكرام.

 أيها المسلمون، إنكم تتوجهون في زمان فاضل إلى أمكنة فاضلة ومشاعر معظمة تؤدون عبادة من أجَلِّ العبادات، نسأل الله - تعالى - أن لا يكون عملنا فخراً ولا رياءً ولا طرباً، ونسأله تعالى أن يجعل جميع أعمالنا يراد بها وجهه والدار الآخرة، فأدوا - أيها المسلمون - هذه العبادة كما أمرتم من غير غلوٍ ولا تقصير؛ ليحصل لكم  ما أردتم من المغفرة والفوز بالنعيم المقيم، قوموا في سفركم وفي إقامتكم بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة وغيرهما من شعائر الدين، إذا وجدتم الماء فتطهروا به في الصلاة، فإن لم تجدوا ماء فقد قال الله تعالى:+فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ"[المائدة:6]، أدوا الصلاة جماعة ولا تتشاغلوا عنها بأي شغل؛ فإن الشغل يمكن قضاؤه بعد الصلاة، «صلوا الرباعية قصراً، فصلوا الظهر والعصر والعشاء الآخرة على ركعتين من خروجكم من بلدكم إلى رجوعكم إليها إلا أن تصلوا خلف إمام يتم الصلاة فأتموها أربعاً»(1)، «اجمعوا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير حسب ما يتيسر لكم إن كنتم سائرين»(2)، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كنتم مقيمين في مكة أو منى أو غيرهما فالسنة أن لا تجمعوا، وصلوا من وصلوا من النوافل الوتر وراتبة الفجر وما شئتم من التطوع «إلا راتبتي الظهر وراتِبة المغرب وراتِبة العشاء»(3) كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذه الثلاثة من التطوعات السنة أن لا تصلوها، وأما ما عداها من التطوع فإنه باقٍ على سُنيته حضراً وسفراً، تخلَّقوا بالأخلاق الفاضلة من الصدق والسماحة وبشاشة الوجه والكرم بالمال والبدن والجاه وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، واصبروا على المشقة والأذى فإن الله مع الصابرين، «وقد قيل: إنما سمِّي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال(م1) ويُبَيِّنها ويظهرها، فإذا وصلتم الميقات «فاغتسلوا»(4) كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «تجرد لإهلاله واغتسل»، «وتطيبوا في أبدانكم وفي الرأس واللحية»(5) كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت:«كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت»، والبسوا ثياب الإحرام غير مطيبة، «البسوا إزاراً ورداءاً أبيضين»(6) كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «ليحرم أحدكم في إزاراً ورداءً أبيضين»(7) للذكور، وللنساء ما شئن من الثياب غير متبرجات بزينة، لا تجاوزوا الميقات بدون إحرام، أحرموا من أول ميقات تمرون به فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّتَ المواقيت وقال:«هنَّ لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن»(8)، ومَنْ كان في الطائرة فليتهيأ للإحرام من قبل ثم ينوي الإحرام إذا حاذى الميقات قبل مجاوزته، ولا يجوز للإنسان أن يؤخر الإحرام إلى جدة كما يفعله بعض الناس فإن هذا خلاف ما جاءت به السنة، وإذا أردتم الإحرام فأمامكم ثلاثة وجوه من الإحرام: إما التمتع، وإما القران وإما الإفراد، والتمتع: أفضل لغير مَنْ ساق الهدي؛ وعلى هذا فإذا وصلتم إلى الميقات فأحرموا بالعمرة ثم سيروا إلى مكة مُلبين بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك والملك لا شريك لك»(9)،«يرفع الرجال أصواتهم بذلك»(10)، أما النساء فلا يرفعن أصواتهن بها، وإذا بلغتم البيت: «فطوفوا به طواف العمرة سبعة أشواط»(11)، واعلموا أن جميع المسجد مكان للطواف القريب من الكعبة والبعيد منها حتى أطراف المسجد وسطحه لكن القرب أفضل إذا لم يكن زحامٌ ومشقة، وإذا أكملتم الطواف «فصلوا ركعتين خلف مقام إبراهيم»(12) قريباً منه إن تيسَّر لكم أو بعيداً منه، «ثم اسعوا بين الصفا والمروة سعي العمرة سبعة أشواط»(13) «تبتدئون بالصفا وتختتمون بالمروة»(14)، فإذا أكملتم السعي «فقصروا من رؤوسكم من جميع الرأس لا من جانب منه»(15) كما يفعله بعض الناس، «وتقصر المرأة من أطرافه بقدر أنملة إصبع»(16) «وبذلك تمت العمرة وحللتم الحلَّ كله»(17)، «فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة فأحرموا بالحج من مكانكم الذي أنتم فيه»(18)، «اغتسلوا»(19)،«وتطيبوا»(20)،«وألبسوا ثياب الإحرام»(21)، «وأحرموا بالحج وسيروا مُلبين إلى منى وصلُّوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً بلا جمع، تصلون الظهر والعصر والعشاء على ركعتين وتؤدون كل صلاة وحدها في وقتها اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع فسيروا مُلبين إلى عرفة وصلوا بها الظهر والعصر على ركعتين جمع تقديم ثم تفرغوا إلى الله بذكره ودعائه والتضرع إليه مستقبلي القبلة ولو كان الجبل خلفكم رافعين قلوبكم وأيديكم إلى ربكم مؤملين منه إجابة دعائكم ومغفرة ذنوبكم .

 أيها المسلمون الحجاج، تأكدوا من الوقوف داخل عرفة فإن كثيراً من الحجاج ينزلون خارج حدودها ولا يقفون فيها، ومَنْ لم يقف في عرفة فلا حج له، وعرفة كلها موقف كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: وقفتُ هاهنا وعرفة كلها موقف، فكل ما في عرفة موقف إلا قبل الوادي وادي عُرَنَة، وإذا غربت الشمس فسيروا إلى مزدلفة وصلوا بها المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين وبيتوا بها حتى تصلوا الفجر، ثم ادعوا الله سبحانه، استغفروه وكبِّروه ووحِّده إلى أن تسفروا جداً، ثم سيروا إلى منى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رخَّص النبي - صلى الله عليه وسلم - للضعفاء الذين يشق عليهم مزاحمة الناس - رخّص لهم أن يدفعوا من مزدلفة في آخر الليل ليرموا الجمرة قبل زحمة الناس، فإذا وصلتم إلى منى فابدؤوا برمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات، كل حصاة أكبر من الحمَّص قليلاً والقطوها من حيث شئتم وكبِّروا مع كل حصاة، واعلموا أن الحكمة من رمي الجمرات هي: إقامة ذكر الله وتعظيمه، وبهذا يكبِّر الرامي عند رميه، ولستم ترمون الشياطين كما يظنه بعض الجهال وإنما ترمون هذه الأحجار في هذه الأماكن تعظيماً لله - عزَّ وجل - وإقامةً لذكره واقتداءً برسوله صلى الله عليه وسلم، «فإذا رميتم الجمرة فاذبحوا الهدي إن تيسر»(22)، ولا يجزىء في الهدي إلا ما يجزىء في الأضحية، قال الله تعالى:+فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ" [البقرة: 196]، ويجوز صيام الأيام الثلاثة قبل الطلوع، ويجوز في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، ويجوز صيام الأيام السبعة بعد رجوعكم متتابعةً أو متفرقة، وإذا ذبحتم الهدي المتيسر «فاحلقوا رؤوسكم»(23) كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «والنساء يقصرن»(24)، وإذا رميتم وحلقتم حلَّ لكم كل شيء من محظورات الإحرام إلا النساء، «فتلبسون ثيابكم وتتطيبون»(25)«ثم تنزلون إلى مكة فتطوفون بالبيت للحج وتسعون له بين الصفا والمروة وبذلك تحلون الحلَّ كله فيحل لكم جميع محظورات الإحرام حتى النساء»(26).                                       

أيها المسلمون الحجاج، إن الحجاج يوم العيد يؤدون مناسك عظيمة؛ ولهذا سمَّى الله هذا اليوم - يوم العيد - سماه: يوم الحج الأكبر، فإن الحجاج يرمون جمرة العقبة ثم يذبحون هديهم ثم يحلقون رؤوسهم أو يقصرون ثم يطوفون بالبيت ثم يسعون بين الصفا والمروة والأفضل أن يفعلها الحاج يوم العيد على هذا الترتيب فإن قدَّمَ بعضها على بعض فلا حرج؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سُئِل يوم العيد عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال:«افعل ولا حرج»(27) تيسراً على العباد ورحمةً بهم، ولو أخرتم الطواف والسعي حتى تنزلوا من منى فلا حرج عليكم غير أنكم لا تتمتعون بالنساء قبل ذلك، وإن أخرتم ذبح الهدي إلى اليوم الثالث عشر وذبحتموه بمكة فلا حرج عليكم .

 أيها المسلمون الحجاج، «بيتوا بمنى ليلتين: الحادية عشرة والثانية عشرة»(28) كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، «وارموا الجمار الثلاث في اليومين بعد زوال الشمس، ابدؤوا برمي الجمرة الأولى الشرقية فارموها بسبع حصيات وكبِّروا مع كل حصاة، ثم تقدموا عن الزحام وقفوا مستقبلي القبلة رافعي أيديكم إلى ربكم تدعونه دعاءً طويلاً، ثم ارموا الجمرة الوسطى بسبع حصيات وكبِّروا مع كل حصاة، ثم تقدموا عن الزحام وادعوا الله دعاءً طويلاً وأنتم إلى القبلة رافعي أيديكم، ثم ارموا جمرة العقبة بسبع حصيات وكبروا مع كل حصاة، وانصرفوا بعد ذلك بدون وقوف للدعاء، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بعد رمي الجمرة الأولى والوسطى ولم يقف بعد رمي جمرة العقبة»(29)، «ولا ترموا قبل زوال الشمس في الأيام التي بعد العيد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرمي فيها إلا بعد الزوال»(30)، ولكم الرمي في الليل بعد غروب الشمس إلى نصف الليل أو إلى طلوع الفجر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «وقَّتَ أول الرمي دون آخره»(31)، «وأَذِنَ للضعفاء أن يدفعوا من مزدلفة قبل الفجر خوفاً عليهم من الزحام»(32)، وارموا بأنفسكم ولا توكِّلوا أحداً يرمى عنكم؛ لأن الله - تعالى - يقول في القرآن: +وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ"[البقرة:196]؛ ولأن الرمي عبادة واجبة على الذكور والإناث، فيجب على المرء أن يؤديها بنفسه إلا عند الضرورة، مثل: أن يكون مريضاً أو كبيراً أو امرأة حاملاً تخاف على نفسها أو على حملها من الزحام فيجوز التوكيل حينئذٍ وإذا جَازَ التوكيل فإن الوكيل يرمى الجمرات أولاً عن نفسه ثم يرميها عن موكِّله ولو في موقف واحد، وإذا رميتم الجمار في اليوم الثاني عشر فقد تمَّ الحج، فمَنْ شاء تعجَّل فخرج من منى قبل غروب الشمس ومَنْ شاء تأخر فبات بمنى ليلة الثالث عشر ورمى الجمار من الغد بعد الزوال وهذا أفضل؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه أفضل عملاً، حيث يحصل له المبيت من الرمي في الثالث عشر، وطوفوا للوداع إذا أردتم السفر إلى بلدكم بعد تمام أفعال الحج كلها؛ لأن طواف الوداع ليس بعده شيء من أفعال الحج، ولقد قيل لنا: إن بعض الناس ينزل فيطوف للوداع ثم يخرج إلى منى فيرمي الجمرات ثم يستمر في سفره وهذا خطأ ٌ مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أمر أن يكون آخر عهد الناس بالبيت»(33)، ومَنْ رمى بعد الوداع فقد جعل آخر عهده بالجمار لا بالبيت؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بعد أن أتمَّ جميع أفعال النسك، وليس على المرأة وداعٌ إذا كانت حائضاً أو نفساء، وإذا رجعتم إلى بلادكم بعد أداء الحج فاعلموا أنكم أديتم عبادةً عظيمة وأن ذلك من نعمة الله عليكم، فاتقوا الله وأنيبوا إليه والزموا طاعته، ولا تعيدوا سيئاتكم لصفحاتكم بعد أن مُحيَت بالحج .

 عباد الله، هذه صفة العمرة والحج سقناها لكم، أسأل الله أن ينفعنا جميعاً بها، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بعبادة الله على الوجه الأكمل الذي يرضاه، فإن الله - تعالى - أمركم أن تكونوا على ما يحب ويرضى، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(34)، واستمعوا قول الله عزَّ وجل:+الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ"  [البقرة: 197] .

 بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كره ذلك من أشرك به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد البشر، الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحبٍ ومعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان، وسلَّم تسليماً .

أما بعد:

فقد ذكرنا فيما سبق أن الإنسان القادر على الحج لا يوكِّل مَنْ يحج عنه في النفل ولا في الفرض؛ لأن التوكيل في الحج إنما ورد لمن لا يستطيع في حج الفريضة فقط؛ وعلى هذا فمَنْ كان قادراً في حج النفل فليؤده بنفسه وإن لم يفعل ولا يوكِّل على ذلك أحداً هذا هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهو الموافق لظاهر نصوص الشريعة؛ وعلى هذا فإذا أراد أحدكم الخير وهو يحب أن يحج فإنه يستأجر سيارة ويركب بها الحجاج ذهاباً وإياباً وتعويداً وبهذا يكون له مثل أجر مَنْ ركب في هذه السيارة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ويحصل على خيرٍ كثير وهو جالس في بيته، وفي هذه الحال إما أن يجعل هذه السيارة التي يستأجرها خاصةً بالفقراء فلا يجوز للأغنياء أن يركبوا فيها، وإما أن يجعلها عامة وحينئذٍ يجوز للأغنياء وغيرهم أن يركبوا فيها، ولكن الذي ينبغي للغني أن لا يركب في هذا، وأن يجعل الحج كله على نفقته .

 أيها المسلمون، إننا في هذه الأيام نستقبل أياماً فاضلة وهي: أيام عشر ذي الحجة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:«ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء»(35) فأكثروا أيها المسلمون، أكثروا في عشر ذي الحجة من ذكر الله، وتكبيره، وتحميده، والتهليل، وقراءة القرآن، والصلاة، والصدقة وغير ذلك من الأعمال الصالحة؛ من أجل أن تفعلوا ما يحبه الله عزَّ وجل، ومن ذلك أن تصوموها فإن الصيام من أفضل الأعمال الصالحة؛ لأن الله - تعالى - يقول: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به»(36)، لكن مَنْ كان عليه قضاء من رمضان فليبدأ بقضاء رمضان قبل صيام التطوع، ويجوز أن يصوم قضاء رمضان في هذه الأيام العشر ويحصل له فضل الصيام فيها؛ لأنه يصوم صوماً واجباً، واعلموا أن من نعمة الله على عباده أن مَنْ لم يحج من المسلمين فقد شرع الله له أن يضحي في بلده و الأضحية سنَّة مؤكدة لكنها للأحياء فقط كما سيتبين لنا إن شاء الله تعالى، «ومَنْ أراد منكم أن يضحي فإن من رحمة الله ونعمته و لطفه به أن نهاه أن يأخذ من شعره أو من ظفره أو من بشرته شيئاً، فلا يجوز لمن أراد أن يضحي أن يأخذ شيئاً من شعره لا من رأسه ولا من شاربه ولا من إبطه ولا من عانته، ولا يأخذ شيئاً من ظفره، ولا يأخذ شيئاً من بشرته أي: من جلده، فلا ينتف جلده كما يفعله بعض الناس في أعقابهم أو في عراقيبهم فإن بعض الناس ينقطها وينتفها وهذا في أيام عشر ذي الحجة محرّمٌ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم- عنه، واعلموا أن هذا النهي من نعمة الله علينا والحمد الله، ومن رحمة الله بنا؛ لأجل أن نشارك الحجاج في بعض شعائر الحج، فإن الحجاج ممنوعون من حلق رؤوسهم وكذلك هؤلاء الذين يضحون ممنوعون من أخذ شيءٍ من شعرهم وبشرتهم وظفرهم ليكونوا لهم نصيب ولو قليلاً يشاركون به الحجاج حيث فاتهم الحج فكان هذا من نعمة الله عزَّ وجل، ويتبيَّن لكم أنه من نعمة الله: أنه لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه لكان التعبد بتركه من البدع فلما نهى عنه صار تركه من العبادات التي يؤجر الإنسان عليها ويثاب عليها»(37) .

أيها الناس، اعلموا أن هذا الحكم وهو تحريم أخذ الشعر والأظفار والبشرة يختص بمن يضحي دون مَن يضحى عنه، وأما مَنْ يضحى عنه وهم أهل البيت فإنه لا حرج عليهم أن يأخذوا من شعورهم وأظفارهم وبشرتهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى مَنْ يضحي فقط ولم ينهَ مَن يضحى عنه؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي عنه وعن أهل بيته ولم ينقل أنه كان ينهى أهل بيته عن الأخذ من شعورهم وأظافرهم وبشرتهم وهذا دليل على أنه لا يحرم على أهل البيت أن يأخذوا شيئاً من الشعور أو الأظفار أو البشرة، والأصل براءة الذمة والحل؛ حتى يقوم دليل على التحريم .

 أيها المسلمون، إن بعض الجهال الذين ابتلاهم الله بالإصرار على حلق لحاهم وهو معصية معصيةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مخالفٌ لهدي الأنبياء والمرسلين والصالحين، موافقٌ لهدي المجوس والمشركين، فحلقُ اللحية محرمٌ وهو مخالف لشعار المسلمين .

 هؤلاء الذين ابتُلوا بهذا سمعنا أن بعضهم يترك الأضحية خوفاً من أن يمتنع من حلق لحيته في أيام العشر وهذا من السفه العظيم، كيف تترك هذه العبادة من أجل أن تعصي الله في هذه الأيام العشر ؟ إن هذا لمن السفه، فاتقِ الله يا أخي، والزم سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لمتأكد من إخواني هؤلاء أنه لو بعثوا وقيل لهم هذه طريق محمد وهذه طريق المجوس والمشركين لاتبعوا طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كانوا يحبون - ذلك وهم يحبونه لكن تغلبهم نفوسهم بضعف العزيمة - إذا كانوا يحبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليقولوا: سمعنا وأطعنا، حيث قال عليه الصلاة والسلام:«خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأوفوا اللحى، وأرخوا اللحى، كل هذه الألفاظ وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحفوا الشوارب، وإني لأعلم علم اليقين أن عند هؤلاء من الدين أو عند بعض هؤلاء من الدين ما يحرصون به على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لضعف العزيمة تغلبهم نفوسهم فيقبلون بهذا الحلق، وأسأل الله - تعالى - أن يعينهم على ترك هذه المعصية؛ حتى يكونوا مطيعين لله ورسوله، متَّبعين لشعار الأنبياء والصالحين، وربما تكون هذه المناسبة - وهي عدم أخذهم من لحاهم في أيام العشر - ربما تكون سبباً للاستمرار على ذلك حتى يلقوا الله عزَّ وجل وهم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله - تعالى - أن يعينهم على ذلك وأن يعفوا عنهم عما مضى من أفعالهم، وأن يرزقنا جميعاً الاستقامة على دينه ويهدينا صراطه المستقيم، الصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين .

 عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تفعلون، واتقوا الله عباد الله، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون .

 

-------------------------

 

(1)  أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الأذان من حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه (599)، وأخرجه مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه (548) واللفظ للبخاري .

(2)  أخرجه البخاري -رحمه الله- في كتاب الجمعة من حديث عمر رضي الله عنه (1041)، وأخرجه مسلم -رحمه الله- في كتاب صلاة المسافرين وقصرها من حديث عمر رضي الله عنه (1145) وفي رواية له من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه .

(3) أخرجه البخاري -رحمه الله- في كتاب الجمعة (1038)، وأخرجه مسلم -رحمه الله- في كتاب صلاة المسافرين وقصرها                (1112)، وأخرجه الإمام أحمد رحمه الله (4531) من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .

(م1)   انظر إلى هذه المقولة في كتاب كشف الخفاء ح2 ص465  (11480) ت م ش .

(4)   أخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب الحج، باب ما جاء في الاغتسال  عند الإحرام (760)، والدارمي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب المناسك من حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه (1726) .

(5)  أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام (1439)، ومسلم في كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام (2042) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، ت ط ع .

(6)   أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (2664) ت ط ع .

 

(7)   أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج (1427)، وأخرجه الإمام -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج (2022) من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .   

(8) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج (1448)، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج (2029) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .

(9)  أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج، باب رفع الصوت بالإهلال (1447) من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج، باب التقصير في العمرة (2190) (2191) من حديث جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، ت ط ع .

(10)  أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج (1536)، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الحج (2172) من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .

(11)  سبق تخريجه في الحديث رقم (7) .

(12)  سبق تخريجه في الحديث رقم (7) .

(13) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنه- الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم (2137)، ت ط ع .

(14)  أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه (1416)، ت ط ع .

(15)  أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في ح2 ص146 (12909) كما جاء في الأثر عن ابن