تفريغ الخطبة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا أنزله قيماً يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين في أبدا وينذر به قوماً لداً خصمين حججا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ينال بها من أخلصها من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أقوم الناس في عبادة ربه وأشدهم منهجا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى فنجى وسلم تسليماً كثيرا
أما بعد
فيا أيها الناس أن الله تعالى يقول في كتابه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أيها الناس إن هذه الموعظة التي جاءتكم من الله هو كتاب الله عز وجل وما تضمنه من أخبار صادقة نافعة وأحكام عادلة مصلحة للخلق ليست مصلحة في الدين فقط ولكنها مصلحة للخلق في الدين والدنيا إنه القرآن الكريم إنه موعظة يتعظ بها العبد فيستقيم على أمر الله ويسير على نهجه وشريعته إنه شفاء لما في الصدور وهي القلوب شفاء لها من مرض الشك والجحود والاستكبار على الحق أو الخلق إنه شفاء لما في الصدور من الرياء والنفاق والحقد والبغضاء والعداوة للمؤمنين إنه شفاء لما في الصدور من الهم والغم والقلق فلا عيش أطيب من عيش المتعظين بهذا القرآن المهتدين به ولا نعيم أتم من نعيمهم ولهذا قال بعض السلف لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف يعنون بهذا ما هم عليه من شرح الصدور بالإيمان بالله والسرور بطاعة الله وعبادته إن هذا القرآن هدى ومنار للسالكين يخرجون به من الظلمات إلى النور إنهم يهتدون به إلى خالقهم إنهم يهتدون به إلى دار كرامته فهو علم فهو هدى علم وتوفيق ورحمة ولكن للمؤمنين به أما المكذبون به الشاكون فيه المستكبرون عنه فلا يزيدهم إلا عمى وخسارة كما قال الله تعالى: ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) وقال الله تعالى:(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً) أيها الناس إنكم قد تتساءلون كيف يكون الكلام الواحد لقوم هدى وشفاء ورحمة ولقوم آخرين ضلالاً وغماً وخسارا والجواب على هذا أن هذا هو ما نطق به القرآن والقرآن لا ينطق إلا بالحق وهو حق كذلك نشاهده نشاهد هذا في الأمور الحسية نرى بعض الطعام يكون لشخص غذاء يزداد به جسمه صحة ونموا ويكون لشخص أخر داء يزداد به جسمه مرضاً وضعفا أرأيتم الحلو أليس هو من الأمور اللذيذة من الأمور المغذية تغذى به الأجسام ولكنه إذا تناوله من فيه داء السكري فإنه يكون مرضا فإذا كان هذا في الأمور الحسية يكون الشيء الواحد لقوم شفاء وغذاء ويكون لآخرين داء ومرضا فهكذا الأمور المعنوية فالقرآن إذا قرأه المؤمن أزداد به إيماناً لأنه يصدق بأخباره ويعتبر بقصصه ويطبق لأحكامه امتثالا لأمر الله واجتنابا لنهي الله فيزداد بذلك علماً وهدى وصلاحا أما إذا قرأه ضعيف الإيمان ومن في قلبه مرض أزداد رجساً إلى رجس لأنه يتشكك في أخباره ويغفل عن الاعتبار بقصصه ويستكبر عن أحكامه يظن أن هذه القصص كأنه قصص عابرة وأساطير أمم غابرة لا توقظ له ضميراً ولا تحرك له إرادة يستكبر عن الحق لا يطبق أحكام الله فلا يزداد بالقرآن إلا شقاء وضلالاً وخسارا يقول الله عز وجل في الآية التي سقناها أولا:(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أيها المسلمون والله إن الذي يحصل للعبد من فضل الله ورحمته بهذا القرآن العظيم من الهدى والرحمة والموعظة وشفاء ما في الصدور لهو الجدير بأن يفرح به لأنه سعادة الدنيا والآخرة ليس من الجدير أن يفرح الإنسان بحطام الدنيا يحصله على حساب عمل الآخرة إن المال ليس مخلداً لأصحابه ولا أصحابه مخلدين له أما ما يحصل من فضل الله ورحمته بهذا القرآن الكريم فإنه خالد باقي وهو خير مما يجمعون:( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) وأسمعوا أيها الأخوة أسمعوا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لموضع صوت أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) هكذا يقول أعلم الخلق بما عند الله هكذا يقول الناصح الأمين الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه يقول موضع الصوت في الجنة وهو مقدار متر فأقل خير من الدنيا كلها وما فيها وليس الدنيا التي عشتها أنت ولكنها الدنيا من أولها إلى أخرها موضع صوت في الجنة خير من الدنيا وما فيها لأن الدنيا وما فيها متاع زائل كحلم نائم أما ما في الجنة فانه باقي لا يزول: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى*إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) أيها الناس إن منا من يسمع ما يتلى من كتاب الله وما يؤثر عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار الصادقة والأحكام العادلة يسمع ذلك من الخطباء والوعاظ في المساجد وغيرها ويقرأ ذلك في الصحف ولكنه مع الأسف الشديد لا يزداد بذلك إيماناً ولا قبولاً للحق ولا انقياداً لطاعة الله وربما يصرح بأنه لا يفعل ما يؤمر به ولا يترك ما ينهى عنه يزجرون فيصرون على الإثم وهم يعلمون فسبحان الله أهذه حال من يزعم أنه مؤمن بالله واليوم الآخر أهذه حال من يزعم موقن بالثواب والعقاب بل أهذه حال مسلم والإسلام هو الاستسلام لله ظاهراً وباطناً والانقياد لطاعته أفيريد هؤلاء أن تكون أحكام الله وشريعته تابعةً لأغراضهم وما يشتهون أم يريدون أن يكونوا ممن قالوا سمعنا وهم لا يسمعون: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) افيرضى هؤلاء أن يشابهوا من قال الله فيهم:(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) افيرضى هؤلاء أن يخرجوا عن طريق المؤمنين الذين قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير أفلا يتعظ هؤلاء الذين يقرؤون القرآن ويسمعون أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفلا يتعظ هؤلاء بقول الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أيها الناس كثير منكم يسمعون أوامر الله ورسوله في الصلاة وما يتعلق بها في الزكاة وما يجب فيها في الصيام في الحج في بر الوالدين في صلة الأرحام في حسن الجوار في العدل في المعاملة بين الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسمعون أوامر الله في ذلك كله ويسمعون التوجيهات الشرعية في البيع والإجارة والنكاح والطلاق والخصومات وغيرها ولكنهم يتجاهلون كل ما يسمعون من تلك الأوامر وهذه التوجيهات ويسيرون على ما تمليه عليه أهوائهم فيكونون في ذلك ممن أتخذ إلهه هواه كثيرٌ منكم يسمعون نواهي الله ورسوله عن التهاون بشأن الصلاة والزكاة والصيام والحج ويسمعون نهي الله ورسوله عن عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وإساءة الجوار وعن الجور في معاملة الناس بالكذب والغش وغيرهما وعن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن الربا والتحيل عليه وعن الميسر والمكاسب المحرمة بجميع وسائلها يسمعون النهي عن ذلك كله ولكنهم يتجاهلون ما يسمعون ويتجاسرون على فعل ما عنه يزجرون متناسين بذلك عظمة من عصوه وشدة عقابه كأنهم لم يقرؤوا قول الله عز وجل: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الله والرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) ولم يقرؤوا قول الله عز وجل( وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) إنهم يغترون إنهم يغترون بإمهال الله لهم واستدراجهم إياهم بنعمه كأنهم لم يسمعوا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الله ليملئ للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته وتلى قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) إن هؤلاء الذين يسمعون الحق ويعرضون عنه محرومون من قول الله تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) ولهم نصيب من قوله تعالى:(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) فيا أيها الناس يا عباد الله اتقوا الله عز وجل أخضعوا لأوامره وإن خالفت أهوائكم اجتنبوا نواهيه وإن وافقت أهوائكم لا تريدوا أن تجعلوا الحق تابعاً لأهوائكم بل اجعلوا أهوائكم تباعاً للحق وهو ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن ذلك والله هو الخير وهو البركة وهو الصلاح والرشد:( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) لو أتبع الحق أهواء الناس لصارت أمورهم فوضى كل واحدٍ يريد أن يستغل برأيه ويكون متبوعاً ولكن الله تولى بيان ذلك في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا ونحن في أنتظار فريضة من فرائضك أن تجعلنا ممن اختاروا هداهم على هواهم اللهم اجعلنا ممن اختاروا هداهم على هواهم اللهم اجعلنا ممن رضوا بشريعتك واطمأنوا بها اللهم اجعلنا ممن انشرحت لها صدورهم فلم يبقوا عنها حولا ولم يرضوا بها بديلا اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين اللهم لا تجعلنا ممن زين له سوء علمه فرءاه حسناً فأصبح من الخاسرين اللهم أهدنا صراطك المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إنك جواد كريم ...
الحمد لله أحمده وأشكره وأتوب إليه واستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا مقدم لما أخر ولا مؤخر لما قدم وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المكرم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلما تسليما كثيرا
أما بعد