خطبة بيان الأحداث التي مرَّ ويَمُرُّ بها المسجد الأقصى - بيان فضل حضور صلاة الجنازة وشهودها حتى تُدفن الشيخ محمد بن صالح العثيمين

بيان الأحداث التي مرَّ ويَمُرُّ بها المسجد الأقصى - بيان فضل حضور صلاة الجنازة وشهودها حتى تُدفن
السبت 1 جانفي 2000    الموافق لـ : 24 رمضان 1420
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

   الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد:

فيا أيها الناس،﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾.[آل عمران: 102]،﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾. [البقرة: 281]، واعرفوا أعداءكم من أوليائكم؛ إن من أعداءكم وألدّ أعداءكم وأشد الناس عداوة لكم لَهُم اليهود الذين يقتلون الأنبياء بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ويسعون في الأرض فسادًا ويصِفون الله تعالى بِمَا لا يليق به، يقولون:﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾.[المائدة: 64]، ويقولون: إن الله فقير، ويقولون: إن الله يتعبُ ويعجز، قاتَلهم الله أنَّى يؤفكون .

ولقد سُلِّط اليهود على جانب من بلاد المسلمين؛ حيث احتلّوا المسجد الأقصى منذ حوالي عشرين سنة وهم يعيثون به فسادًا وبأهله عذابًا، وفي سنة ست وتسعين وثلاثمائة وألف أصدرت محكمة يهوديّة حكمًا بجواز تعبّد اليهود في نفس المسجد الأقصى ومضمون هذا الحكم اليهودي الطاغوتي: إظهار شعائر الكفر في مسجد من أعظم المساجد الإسلامية حرمة؛ فإن هذا المسجد - أعني به: المسجد الأقصى - هو المسجد الذي أُسري برسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إليه لِيَعرج من هناك إلى السماوات العلا إلى رب العزة جلَّ وعلا، وإنه - أعني: المسجد الأقصى - لَثاني مسجد وضع في الأرض لعبادة الله - عزَّ وجل - وتوحيده، ففي الصحيحين عن أبي ذرِّ - رضي الله عنه - قال: «قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي ؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما ؟ قال: أربعون سنة»(1) .

إن المسجد الأقصى لَثَالث المساجد المعظّمة التي لا تشدّ الرّحال إلا إليها وهي: المسجد الحرام بمكة الآمنة ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة النبويّة والمسجد الأقصى في القدس، هذه المساجد الثلاثة هي التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى»(2)، والمسجد الحرام أفضلها ثم المسجد النبوي ثم المسجد الأقصى؛ ولهذا جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه سلم - حين فتح مكة فقال:  «إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أُصلي في بيت المقدس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صلِّ ها هنا؛ لأنه نقَلَه من المكان المفضول إلى المكان الأفضل، ولكن الرجل أعاد السؤال، فقال: صلِّ ها هنا، فأعادَ إليه مرَّة ثالثة فقال: شأنك إذن»(3) .

[إن هذا المسجد الذي يقع في الأرض المقدّسة المباركة إنه مقرّ أبي الأنبياء إبراهيم الخليل ومقرُّ بنيه سوى إسماعيل، إنه مقرُّ إسحاق بن إبراهيم ويعقوب بن إسحاق إلى أن خرج يعقوب بأهله إلى ابنه يوسف في مِصر فبقوا هنالك حتى صاروا أمة بجانب الأقباط آل فرعون، وكان آل فرعون يسومونهم سوء العذاب: يقتّلون أبناءهم بالذبح أحيانًا وبغيره أحيانًا ويستحيون نساءهم حتى خرج فيهم موسى صلى الله عليه وسلم، وقد ذكّر الله نعمته بني إسرائيل حيث يقول:﴿ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾. [البقرة: 49]، وفي آية أخرى:﴿ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ .[البقرة: 49]، وذكَّرهم موسى نعمة الله عيلهم بذلك وبغيره إذ جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكًا وآتاهم ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين في زمانهم وقبل زمانهم][م1] .

وأما بعد زمانهم فإن هذه الأمة أكرم الأمم عند الله وأفضل الأمم عند الله؛ أعني بها: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم منهم أمة إجابة واتّباع وحشر معه يوم القيامة .

[وأمرهم؛ أي: أن الله تعالى أمرهم - أي: بني إسرائيل - بجهاد الجبابرة الذين استولوا على الأرض المقدّسة وبشّرهم بالنصر؛ حيث قال لهم موسى - عليه الصلاة والسلام:﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾.[المائدة: 21]، وإنَّما كتب الله الأرض لهم في ذلك الوقت؛ لأنهم كانوا حينذاك أحق الناس بها فهم أهل الإيمان والصلاح والشرعية القائمة][م2]  .

وأرض الله تعالى لا يرثها من عباد الله إلا مَن كان قائمًا بأمره كما قال جلَّ وعلا: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾.[الأنبياء: 105-106]، ولكنَّ بني إسرائيل لم يستجيبوا لموسى بدعوته إلى الجهاد ونكلوا عن ذلك وقالوا لموسى: اذهب ﴿ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾. [المائدة: 24]، ولِنُكولهم عن الجهاد ولمخاطبتهم نبيّهم بهذا العناد [حرّم الله عليهم دخول الأرض المقدسة فتاهوا في الأرض أربعين سنة بين مِصْر والشام حتى مات أكثرهم أو كلّهم إلا مَن ولدوا في التيه، وذكَر المؤرِّخون أن موسى وهارون - عليهما السلام - ماتا في خلال هذه المدّة وخلَفَهما يوشُع فيمَن بقي من بني إسرائيل من النشء الجديد وفتح الله عليهم الأرض المقدَّسة][م3] [حتى آلَ الأمر إلى داوود وسليمان عليهما السلام، فجدَّدا بناء بيت المقدس وكان يعقوب قد بناه قبل ذلك][م4] [ولمَّا عتا بنو إسرائيل عن أمر الله سلّط الله عليهم ملِكًا من الفرس يقال له: بختنصَّر، فدمّر بلادهم وبدّدهم قتلاً وأسرًا وتشريدًا وخرّب بيت المقدس للمرّة الأولى][م5]، ثم ردَّ الله تعالى الكرَّة لبني إسرائيل وأمدَّهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرًا، [ولكنّهم نسوا ما جرى عليهم وكفروا بالله ورسله﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾. [المائدة: 70]، فسلَّط الله عليهم بعض ملوك الفرس أو الروم مرَّة ثانية فاحتلوا بلادهم وأذاقوهم العذاب][م6] [ثم بقيَ المسجد الأقصى بأيدي النصارى من الروم من قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو ثلاثمائة سنة][م7] [حتى أنقذه الله - عزَّ وجل - من أيديهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، فصار المسجد الأقصى - وللهِ الحمد - بيد أهله الذين ورثوه بحق وهم المسلمون][م8] كما قال الله عزَّ وجل:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.[النور: 55]، وبقيَ في أيدي المسلمين [حتى استولى عليه النصارى من الإفرنج أيام الحروب الصليبيّة التي جرَتْ بين النصارى والمسلمين، فاستولى عليه النصارى في الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، فدخلوا القدس في نحو مليون مقاتل وقتَلُوا من المسلمين نحو ستين ألفًا واستولوا على ما في المسجد من ذهب وفضَّة وكان يومًا عصيبًا على المسلمين أظهرَ النصارى شعائرَهم على المسجد الأقصى: فنصبوا الصليب وضربوا الناقوس وحلَّت فيه عقيدة التثليث: إن الله ثالث ثلاثة، وعقيدة الوحدة والبنوّة، قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، وقالوا: إن المسيح ابن الله، وهذه واللهِ من أكبر الفتن وأعظم المحن، وبقيَ النصارى عليهم وعلى اليهود لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة -آمين -  وبقيَ النصارى مُحتلّين للمسجد الأقصى أكثر من تسعين سنة][م9] [حتى استنقذه الله من أيديهم على يد الملك صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب في سبع وعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فكان فتحًا مبينًا ويومًا عظيمًا مشهودًا أعادَ الله فيه المسجد الأقصى وأعادَ إليه كرامته وكُسرت - ولله الحمدُ - فيه الصلبان ونودِي فيه بعد النواقيس بالآذان وأُعلنت فيه عبادة الواحد الديَّان][م10] [ثم إن النصارى أعادوا الكرَّة على المسلمين وضيَّقوا على الملك ابن أخي صلاح الدين فصالَحَهم على أن يُعيد إليهم بيت المقدس ويُخلّوا بينه وبين البلاد الأخرى وذلك في ربيع الآخر سنة ست وعشرين وستمائة، فعادت دولة الصليب إلى المسجد الأقصى مرَّة أخرى][م11] ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾.[الأحزاب: 38]، وحتمًا مفعولاً، واستمرّت أيدي النصارى عليه [حتى استنقذه منهم الملك الصالح أيوب سنة اثنتين وأربعين وستمائة وبقيَ في أيدي المسلمين][م12]  .

وفي ربيع الأول من عام سبعة وثمانين وثلاثمائة ألف احتلَّه اليهود أعداء الله ورسوله بمعونة أوليائهم من النصارى، وفي عام ستة وتسعين وثلاثمائة وألف أصدروا حكمًا بجواز تعبّد اليهود في المسجد الأقصى، وفي عام ستة بعد ألف وأربعمائة دخله جماعةٌ من هيئة حكومتهم البرلمان الذي يسمّونه [الكِنيست] وطافوا فيه ولا ندري ماذا يريدون بعد هذا، ولقد قالت رئيسة وزرائهم في ذلك الوقت، قالت: إن كان من الجائز أن تتنازل إسرائيل عن تلّ أبيب فليس من الجائز أن تتنازل عن أورشليم القدس، وهكذا جاء رئيسهم الأخير وأبدى عناده وأنه لن يتنازل عن بيت المقدس أبدًا ولا شك أن هذا التّسليط بسبب ذنوبنا وإعراضنا عن ديننا وإن نصرَ الله - عزَّ وجل - لا يمكن إلا حيث ننصر الله تعالى، قال الله عزَّ وجل:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾. [محمد: 7]، وإن نصر الله - عزَّ وجل - لن يكون إلا بعبادته والتمسّك بشريعته ظاهرًا وباطنًا والاستعانة به وإعداد ما أمر به من القوّة الماديّة والمعنويّة بكل ما نستطيع ثم القتال - قتال أعداء الله - من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، أما أن نحاول طرد أعداء الله من بلادنا ثم نُسكنهم قلوبنا بالميل إلى منحرف أفكارهم والتلطّخ بسافل أخلاقهم، أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم يلاحقهم رجال من مستقبل أمّتنا يتجرّعون ويستمرئون صديد أفكارهم ثم يرجعون يتقيّؤونه بيننا، أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم نستقبل ما يرد منهم من أفلام فاتنة وصحف مضلّة، أما أن نحاول طردهم من بلادنا ونحن نُمارس هذه الأمور فإن ذلك من محاولة الجمع بين النقيضين وهذا كالذي يحاول أن يجمع بين الماء والنار وكل مَن حاول ذلك فقد سلك مسلكًا غير سليم .

إن الفجوة بين المسلمين اليوم وبين النصر المبين واسعة إن سلكنا هذا المسلك؛ لأن النصر مشروط بشروط لن يتحقَّق بدونها، واسمعوها من قول مَن بيده ملكوت السماء والأرض وبأمره النصر والخذلان، يقول الله تعالى:﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾. [الحج: 40]، فمَن الذي ينصره أهوَ الذي ينصره بالكلام دون الفعل ؟ إن الذي ينصره هو الذي أجاب الله تعالى عن هذا السؤال بقوله:﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾. [الحج: 41]، هؤلاء هم الذين يستحقّون نصر الله حقيقة .

نعم، الذين إن مكّنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولا يحملهم التمكين في الأرض على الأشر والبطر وإنّما يحملهم على الصلاح والإصلاح، فنسأل الله تعالى أن يمكّن ديننا في أرضنا حتى يمكّن لنا في الأرض، نسأل الله تعالى أن يمكّن لنا ديننا في قلوبنا حتى يمكّن لنا في الأرض، نسأل الله تعالى أن يمكّن لنا ديننا في أقوالنا حتى يمكّن لنا في الأرض، نسأل الله تعالى أن يمكّن لنا ديننا في أفعالنا حتى يمكّن لنا في الأرض؛ إنه على كل شيء قدير .

أيها المسلمون، اتّقوا الله وأنيبوا إليه وأقيموا شريعته وأطِيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين .

اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا ونحن في انتظار فريضة من فرائضك أن تنصر الإسلام والمسلمين .

اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم طهِّر المسجد الأقصى من اليهود والنصارى والمنافقين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن بهداهم اهتدى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .

أما بعد:

فيا عباد الله، اتّقوا الله عزَّ وجل، اتَّقوا الله تعالى واعلموا أنكم مسؤولون عن كل صغير وكبير ممّا تقولونه أو تفعلونه، قال الله عزَّ وجل:﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. [ق: 16-17].

تأدَّبوا بآداب الله، اتَّعظوا بمواعظ الله، واعلموا - أيها الإخوة - أن الإنسان «إذا شهد الجنازة حتى يُصلى عليها فله قيراط؛ قيراط من الآجر، ومَن شهدها حتى تُدفن فله قيراطان»(4) وليس القيراط ما تعرفونه من الوزن ولكن القيراط أجاب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سُئل: «ما القيراطان ؟ قال: مثل الجَبلين العظيمين أصغرهما مثل أُحد»(5).

ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على اتّباع الجنازة من بيتها إلى المسجد ومن المسجد إلى المقبرة حتى تُدفن وإن صلى عليها وتبعها من المسجد إلى المقبرة حتى تُدفن فإننا نرجو أن يكتب له الأجر؛ لأن المقصود بشهودها من بيتها إلى المسجد هو الصلاة عليها .

ولقد ذكر العلماء - رحمهم الله - أنه ينبغي لمتَّبع الجنازة أن يكون متأملاً مفكّرًا في مآله؛ فإن هذا الذي يحمله اليوم على كتفه جثة سوف يكون هو محمولاً كما حُمل جثة على نعش، فلْيتأمّلْ في مآله ولْيتعظ، ولا ينبغي أن يتحدّث في أمور الدنيا، قال أهل العلم: لا ينبغي لمتَّبع الجنازة أو منتظرها حتى تُدفن أن يتحدّث بشيء من أمور الدنيا.

ولقد بلَغَنا أن الناس مَن إذا كانت في المقبرة ينتظر الفراغ من دفن الميت فإنه يضحك وكأن شيئًا لم يكن وإنه ربّما يبيع ويشتري في هذا المكان وهذا المكان ينبغي أن يستولي على القلب فيه ما يكون به الموعظة، فاجتنبوا ذلك - أيها الإخوة - ولْيكن أحدكم حين اتّباع الجنازة يتفكّر في مآله ويتّعظ لِيُصلح بذلك حاله؛ فإن هذا من الأمور التي تترتّب على اتّباع الجنائز .

اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممّن يتّعظ بمواعظك يا رب العالمين، اللهم اجعل القرآن لنا شفاءً، اللهم اجعل القرآن لنا شفاءً ولأسقامنا دواءً يا رب العالمين .

واعلموا أن «خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة»(6) «فعليكم بالجماعة»(7) عليكم بالجماعة، عليكم بالجماعة، اجتمعوا على دين الله ولا تتفرّقوا فيه، ائتلفوا ولا تتعادوا؛ فإن هذه الأمة أمة الوحدة، أمة الائتلاف، أمة المحبة، أمة التعاون على البر والتقوى، تعاونوا﴿ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ .[المائدة: 2].

وهنا مسألة ذكرتها الآن أحبّ أن أُنبه عليها وهي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من رجل يسترعيه الله على رعيّة يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيّته إلا حرّم الله عليه الجنة»(8) وهذه الرعاية تشمل الرعاية الكبرى الواسعة والرعاية الصغرى وتشمل رعاية الرجل في أهله؛ وعلى هذا فمَن مات وقد خلّف في بيته شيئًا من الدُّشوش فإنه قد مات وهو غاشٌّ لرعيّته وسوف يُحرم من الجنة كما جاء في الحديث .

ولهذا نقول: إن أي معصية تترتّب على هذا الدّش الذي ركّبه الإنسان قبل موته؛ إن كل معصية تترتّب عليه بعد موت الإنسان فإن «عليه وزْرها»(9) وإن طالَ الزمن وكثرت المعاصي .

فاحذر أخي المسلم، احذر أن تخلّف بعدك ما يكون إثمًا عليك في قبرك، وما كان عندك من هذه الدشوش فإن الواجب عليك أن تكسّره؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا على وجه محرّم، لا يمكن بيعه؛ لأنك إذا بعته سلّطت المشتري على استعماله في معصية الله وحينئذٍ تكون ممّن أعانَ على الإثم والعدوان، ولا طريق للتوبة من ذلك قبل الموت إلا بتكسير هذه الآلة التي حصل فيها من الشر والبلاء ما هو معلوم اليوم للعام والخاص .

احذر - يا أخي - أن يفجعك الموت وفي بيتك هذه الآلة الخبيثة، احذر ! احذر؛ فإن إثمها ستبوء به وسوف يجري عليك بعد موتك .

نسأل الله السلامة والعافية .

اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا وعملاً صالحًا ورزقًا طيِّبًا تغنينا به عمّن سواك يا رب العالمين .

اللهم يسّرنا لليسرى وجنّبنا العسرى واغفر لنا في الآخرة والأولى .

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

--------------------------

(1)أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [أحاديث الأنبياء] [3115]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [المساجد ومواضع الصلاة] [808]، من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه. ت ط ع، انظر إلى الجزء [1] من [البداية والنهاية] عند ذكره قصة الذبيح صفحة [152] . 

(2)أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الجمعة] [1115]، ومسلم في كتاب [الحج] [2475]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .

(3)أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما [14390]، وأخرجه -رحمه الله تعالى- في باقي مسند الأنصار رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، من حديث عبد الرحمن بن عوف وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم [22087]، وأخرجه أبو داوود في سننه -رحمه الله تعالى- من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما في كتاب [الإيمان والنذر] باب: مَن نذر أن يصلي في بيت المقدس [2875]، ت ط ع .

(4)أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [الجنائز] باب: مَن انتظر حتى تُدفن [1240]، من حديث أبي هريرة الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في كتاب [الجنائز] باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها [1570] .

(5)أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [الجنائز] باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، [1571] .

(6)أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما في كتاب [الجمعة] باب: تخفيف الصلاة والخطبة [1435] ت ط ع .

(7)أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في مسند الأنصار، من حديث أبي ذرّ الغفاري رضي الله تعالى عنه [2033]، وأخرجه الترمذي في سننه، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في كتاب [الفتن] باب: ما جاء في لزوم الجماعة [2093]، وأخرجه النسائي -رحمه الله تعالى- في سننه، من حديث أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الإمامة] باب: التشديد في الجماعة [838] ت ط ع .

(8)أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [الإيمان] باب: استحقاق الوالي الغاشّ لرعيته النار، من حديث معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه [203-204]، وكذلك أخرجه في كتاب [الإمارة] في باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي من عن إدخال المشقة عليهم، من حديث معقل بن يسار المزني رحمه الله تعالى [3409] .

(9)أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الزكاة] باب: الحث على الصدقة ولو بشقِّ تمرة أو بكلمة طيبة وأنها حجاب من نار [1691]، ت ط ع .

[م1] ذكرها الحافظ بن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره المبارك في الجزء [3] الصفحة [348]، وكذلك ذكرها رحمه الله تعالى وجزاه الله عن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- كل خير في كتابه التاريخي [البداية والنهاية] الذي حثّ شيخنا سماحة الوالد الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- عليه في الجزء [4] الصفحة [149] .

[م2] انظر إلى تفسير هذه الآية من سورة المائدة رقم [20-21] في تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى، الجزء [1] الصفحة [47-121] و [129-256] الجزء [2] الصفحة [51] .

[م3] انظر إلى تفسير هذه الآية الكريمة في تفسير ابن كثير -رحمه الله تعالى- عند تفسيره للآية [26] من سورة المائدة، وانظر إلى [البداية والنهاية] للحافظ بن كثير -رحمه الله تعالى- في قصة نبي الله يوشع -عليه السلام- في المجلد [1] الصفحة [303] .

[م4] انظر إلى تفسير ابن كثير -رحمه الله تعالى- عند تفسيره للآية [34] من سورة ص، وكذلك ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- هذه القصة في [البداية والنهاية] في المجلد [1] الجزء [2] الصفحة [24] .

[م5] انظر إلى هذه القصة ذكرها الحافظ بن كثير -رحمه الله تعالى- عند تفسيره للآيتين [5-7] من سورة الإسراء، وكذلك ذكرها في [البداية النهاية] في أحداث سنة 492 في المجلد الثاني عشر، الصفحة [166] .

[م6] انظر إلى تفسير هذه الآية الكريمة عند القرطبي -رحمه الله تعالى- في تفسير الآية رقم [7] من سورة الإسراء .

[م7] انظر إلى هذه القصة ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره المبارك عند تفسير الآيتين [5-7] من سورة الإسراء، وكذلك ذكرها في [البداية والنهاية] حين ذكر أحداث عام 492 في الجزء الثاني عشر، الصفحة [166]، وانظر إلى هذه القصة قصة خراب المسجد الأقصى إلى إعادة إعماره، ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- في [البداية والنهاية] المجلد [1] الجزء [2] من الصفحة [31-41] .

[م8] انظر إلى هذه القصة ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- في [البداية والنهاية] في المجلد [4] الجزء [7] من الصفحة [256-265] .

[م9] سبق تخريج هذه القصة .

[م10] انظر إلى ما ذكره الحافظ بن كثير -رحمه الله تعالى- في المجلد [6] الجزء الحادي عشر من الصفحة [344-350] ذكر هذه القصة من أحداث 583 .

[م11] انظر إلى هذه القصة ذكرها الحافظ بن كثير -رحمه الله تعالى- في كتابه المبارك [البداية والنهاية] عندما ذكر أحداث 626 هـ على صاحبها نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، انظر إلى هذه القصة في المجلد [7] الجزء الثالث عشر الصفحة [133] .

[م12]  انظر إلى أحداث هذه القصة في سنة 644 هـ في كتاب [البداية والنهاية]، ذكرها الحافظ بن كثير -رحمه الله تعالى- في الجزء [13] الصفحة [171] .