خطبة بيان محظورات الإحرام - بيان مفاسد خروج الأضحية خارج بلد المضحي وتفويت المصالح المترتبة على هذا الفعل الشيخ محمد بن صالح العثيمين

بيان محظورات الإحرام - بيان مفاسد خروج الأضحية خارج بلد المضحي وتفويت المصالح المترتبة على هذا الفعل
السبت 1 جانفي 2000    الموافق لـ : 24 رمضان 1420
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

الخطبة الأولى

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

 إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله وأمينه على وحيه، أرسله الله - تعالى - بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد:

فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله بحكمته ورحمته فرض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها، فرض عليكم تعظيم شعائره وحرماته، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج:32]  وقال: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج:30] .

  عباد الله، ألا وإن من شعائر الله: مناسك الحج والعمرة كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة:158]، فعظموا هذه المناسك فإنها عبادة عظيمة ونوع من الجهاد في سبيل الله، سألت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : هل على النساء جهاد ؟ قال:«عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة»(1)، عظموا هذه المناسك - الحج والعمرة - بالقيام بما أوجب الله عليكم والبعد عما حرم الله عليكم سواء كان ذلك من خصائص الإحرام أَمْ عام، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197]،  عظموا هذه المناسك بالإخلاص فيها لله - تعالى - والاتباع لنبيكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقوموا بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة في أوقاتها وفي جماعة والنصح للمسلمين، واجتنبوا ما حرم الله عليكم من المحرمات العامة من الفسوق بجميع أنواعه، اجتنبوا الكذب، والغش، والخيانة، والغيبة، والنميمة، والاستهزاء بالمسلمين والسخرية منهم، واجتنبوا الاستماع إلى المعازف وإلى الأغاني المحرمة، واجتنبوا التدخين - وهو: شرب الدخان - فإنه حرام لما فيه من ضرر الأبدان وضياع الأموال، واعلموا أن من دَخَّنَ وهو في حج أو عمرة فإن ذلك ينقص من ثواب حجِّه وعمرته؛ لأنه ارتكب ما نهى الله عنه في قوله: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:197]، فاستعينوا بالحج والعمرة على الإقلاع عن التدخين؛ لأنكم إذا تركتم التدخين في هذه المدة فربما يكون ذلك عوناً لكم على اجتنابه في باقي الأوقات .

 عباد الله، اجتنبوا ما حرم الله عليكم تحريماً خاصاً بسبب الإحرام وهي التي يسميها العلماء محظورات الإحرام، فاجتنبوا الرفث وهو: الجماع ومقدماته من اللمس والتقبيل والنظر بشهوة وتلذذ، فالجماع أعظم محظورات الإحرام وأشدها تأثيراً، فمن جامع في الحج قبل التحلل الأول فسد حجه ولزمه إنهاؤه ولزمه قضاؤه من العام المقبل ولزمته فديةٌ وهي: بدنةٌ ينحرها ويتصدق بها على الفقراء في مكة أو منى، واجتنبوا الأخذ من شعر الرأس؛ فإن الله - تعالى - يقول:﴿وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّه﴾[البقرة:196]، وإنما نهى سبحانه عن حلق الرؤوس حتى يبلغ الهدي محله؛ من أجل أن يتوفر شعر الرأس حتى يحلق أو يقصر تعظيماً لله عزَّ و جل، وأَلْحَقَ جمهور العلماء شعر بقية البدن بشعر الرأس ثم قاسوا على ذلك إزالة الأظفار وقالوا: لا يجوز للمحرم أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره إلا أن ينكسر ظفره فيؤذيه فله أخذ ما يؤذيه فقط، فمن حلق رأسه لعذر أو غير عذر فعليه فدية لقوله تبارك وتعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة:196]، وبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بأن الصيام صيام ثلاثة أيام، وأن الصدقة إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك شاةٌ يذبحها ويتصدق بها على المساكين، ويكون الإطعام والذبح في مكة أو في مكان فعل المحظور، واجتنبوا قتل الصيد فإن الله - تعالى - يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾[المائدة:95]  سواء كان الصيد طائراً كالحمام أم سائراً كالظباء والأرانب، فمن قَتَلَ صيداً متعمداً فعليه الإثم والجزاء وهو: إما ذبح ما يماثله من الإبل أو البقر أو الغنم فيتصدق به على المساكين في مكة أو منى، وإما تقويمه بدراهم يتصدق بما يساويها من الطعام على المساكين في مكة أو منى، وإما أن يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً، ومن الصيد: الجراد، فلا يجوز للمحرم أن يصطاد جرادة أو ينفرها عن مكانها، ولكنها لو نفرت بمشيه بدون قصد منه فلا حرج عليه، وأما قطع الشجر فلا تَعَلُّقَ له بالإحرام فيجوز للمحرم في غير الحرم قطع الشجر إذا كان خارج الأميال مثل: عرفة، ولا يجوز إذا كان داخل أميال الحرم مثل: مزدلفة ومنى ومكة إلا ما غرسه الآدمي بنفسه فله قطعه، ويجوز أن يضع البساط على الأرض في منى و مزدلفة وغيرهما من أرض الحرم ولو كان فيها حشيش أخضر إذا لم يقصد بذلك إتلافه، واجتنبوا حال الإحرام عقد النكاح وخطبة النساء، فإنه قد صَحَّ عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قال:«لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب»(2)، فلا يجوز للمحرم أن يتزوج سواء كان رجلاً أم امرأة ولا أن يزوج غيره ولا أن يخطب امرأة . عباد الله، اجتنبوا الطيب بجميع أنواعه دهناً كان أم بخوراً، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحرمين:«لا تلبسوا ثوباً مسَّه الزعفران»(3)، وقال في الرجل الذي مات بعرفة وهو محرم:«اغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً»(4)، والحنوط هو: الطيب الذي يجعل في قطن على بدن الميت بعد تغسيله، فلا يجوز للمحرم أن يدهن بالطيب أو يتبخر به أو يضعه في أكله أو شرابه أو يتنظف بصابون مطيب يظهر فيه أثر الطيب، ويجوز له أن يغتسل ويزيل ما لوثه من وسخ، وأما التطيب عند الإحرام فإنه سنة ولا يضر بقاؤه بعد عقد الإحرام، فقد قالت عائشة رضي الله عنها:«كنت أطيب - رسول الله صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم وقالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك أي: بريقه في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم»(5) .

عباد الله، اجتنبوا تغطية الرأس بما يغطى به عادةً و يلاصقه كالعمامة والغترة والطاقية، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي مات:«لا تخمروا رأسه» أي: لا تغطوه، فأما ما لم تجرِ العادة بكونه غطاءً كالعفش يحمله المحرم على رأسه فلا بأس به، وكذلك ما لا يلاصق الرأس كالشمسية ونحوها فلا بأس به؛ لأن المنهي عنه تغطية الرأس لا تظليل الرأس، وعن أم الحصين - رضي الله عنها - قالت:«حججت مع النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهم آخذٌ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر رافع ثوبه عليه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة»، وتحريم تغطية الرأس خاصٌ بالرجال، أما المرأة فيجوز لها أن تغطي رأسها، وأما وجهها فالمشروع لها كشفه إلا أن يمر بها أحدٌ من غير محارمها من الرجال فيجب عليها ستره، ولا يجوز لها أن تلبس النقاب ولا البرقع .

 عباد الله، اجتنبوا من اللباس ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث سئل ما يلبس المحرم فقال:«لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرانس ولا السراويل ولا الخفاف»(6)، وقال:«من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل»(7)، وتحريم هذا اللباس خاص بالرجال، فلا يجوز للرجل إذا أحرم أن يلبس القميص كالثياب التي علينا الآن ولا ما كان بمعناه كالفنيلة والصدرية والكوت، ولا يلبس العمامة ولا ما كان بمعناها كالغترة والطاقية، ولا يلبس البرنس وهو: ثوب يوصل بغطاء للرأس ولا ما كان بمعناه كالمشلح، ولا يلبس السراويل سواء كان نازلاً عن الركبتين أم فوق الركبتين، ولا يلبس الخفين ولا ما كان بمعناهما كالشُراب، أما المرأة فلها أن تلبس من اللباس ما شاءت، ويجوز للرجل أن يلبس الساعة والخاتم ونظارة العين وسماعة الأذن وعقد الإزار وشبك الرداء إن احتاج إليه وإلا فالأولى أن لا يشبكه، ويجوز للرجل أن يلبس الإزار المخيط ولا يشبك رداءه أي: الذي يلبسه على أعلى بدنه لا يشبكه  بمشابك متواصلة؛ لأنه إذا شبكه أشبه القميص بخلاف الإزار الذي يخاط طرفاه؛ لأنه خيط طرفاه لا يخرج عن كونه إزاراً، والإزار جائز للمحرم بكل أنواعه، أما المرأة فلا يحق لها أن تتبرج بالزينة ولها  أن تلبس ما شاءت غير متبرجة بزينة؛ لأن النساء ليس لهن ثياب خاصة للإحرام، ويحرم على المرأة وعلى الرجل - أيضاً - لبس القفازين وهما: شراب اليدين، ويحل للرجل والمرأة تغيير ثياب الإحرام إلى ثياب أخرى يجوز لبسها سواء غَيَّرها الوسخ أو نجاسةٍ أو غيرها، فهذه محظورات الإحرام فاجتنبوها امتثالاً لأمر الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم، واسألوا الله - تعالى - أن يرزقكم حجاًّ مبروراً و سعياً مشكوراًَ وذنباً مغفوراً، وفقني الله وإياكم لصالح الأعمال، وجنبنا جميعاً سيئ الأعمال وحجنا من التفريط والإهمال إنه جواد كريم واسع الفضل والنوال، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً .

أما بعد:

فيا عباد الله، إن الله شرع بحكمته ورحمته لعباده الذين لم يحجوا أن يتقربوا إليه بذبح الأضاحي عنهم وعن أهليهم في بلادهم؛ لتعظيم شعائر الله عند المسجد الحرام، وفي البلاد الإسلامية الأخرى وهذا من كمال حكمته جلَّ وعلا أن تكون هذه النسيكة في جميع بقاع المسلمين لا في بقعة واحدة، قال الله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ [الحج:34] ،  وقال تعالى:﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج:36-37] ، وقال تعالى:﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر:2] ، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام:162-163]، فقَرَنَ الله - تعالى - النحر بالنسك وهو: الذبح والنحر قرنه بالصلاة؛ وذلك لأنه من شعائر الله عزَّ وجل، فالمقصود بالأضاحي: إقامة هذه الشعيرة والتعبد لله - تعالى - بها، وليس المقصود بها أن ينتفع بها الفقراء فقط لقوله تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا﴾ [الحج:37]؛ ولهذا قدم الله - تعالى - الأكل منها على الإطعام منها فقال: ﴿فَكُلُوا مِنهَا وَأَطْعِمُواْ﴾ [الحج: 28] وهذا يدل على أهميتها، وأنه لا ينبغي أن يخرجها الإنسان عن بلده بل الأفضل أن يذبحها في بيته إذا كان هناك مكان للذبح وإلا ففي مكان آخر، ويباشر هو ذبحها إن أحسنه وإلا وَكَّلَ وشهده، ولقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن الأضحية شيء واللحم شيء آخر فقال:«من صلَّى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم»(8) فقال رجل: يا رسول الله، نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«تلك شاة لحم»(8) يعني: وليست أضحية، فَفََرَّقَ النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بين شاة اللحم وشاة النسك وفي هذه النصوص القرآنية والسنة النبوية دليل واضح على أنه ليس المقصود من الأضاحي مجرد الانتفاع باللحم، ولو كان هذا هو المقصود لأجزأت الأضحية بالصغير والكبير ومن بهيمة الأنعام وغيرها وبالدراهم والفرش واللباس، ولكن المقصود الأعظم شيء وراء ذلك وهو تعظيم شعائر الله، والتقرب إليه تعالى بالذبح، وذكر اسم الله عليها وهذا لا يحصل، انتبهوا أيها الإخوة، هذا لا يحصل إلا إذا أقيمت هذه الشعيرة في البلاد ورآها الصغير والكبير وذُكِرَ اسم الله عليها، وبذلك نعلم أن الأولى والأكمل والأفضل والأقوم لشعائر الله أن يضحي الناس في بلادهم، وأن لا يُخْرِجوا أضاحيهم عن بلادهم وبيوتهم؛  لأن إخراجها عن البلاد يفوت به مصالح كثيرة ويحصل به شيء من المفاسد .

 أيها الإخوة، لا تحملنكم العاطفة عن الخروج عما كان مشروعاً في الأضحية، إننا نعطف على إخواننا الفقراء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ولكننا لا نفرط أبداً بما هو من شعائر ديننا أن نقوم به في بلادنا كما فعله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه كان يضحي بالمدينة ولا يبعث بأضحيته إلى مكان آخر وإنما كان يضحي بها ويعلنها، حيث كان يخرج بأضحيته - عليه الصلاة والسلام - إلى مصلى العيد ويذبحها هنالك إظهاراً لهذه الشعيرة، وإننا إذا أعطينا دراهم ليضحى عنا في بلاد أخرى فإنه يفوت به شيء كثير من المصالح ويحصل به شيء من المفاسد، مما يفوت به: إظهار شعيرة من شعائر الله في بلادنا فتتعطل بيوت أو بعضها أو كثير منها عن هذه الشعيرة لاسيما إذا تتابع الناس فيها، فتتابعوا فيها .

 مما يفوت به من المصالح: مباشرة ذبح المضحي لأضحيته تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يذبح أضحيته بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، فالسنة أن يذبح الإنسان أضحيته بنفسه تقرباً إلى الله عزَّ وجل ويسمي الله عليها ويكبره تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتثالاً لقول الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾ [الحج:36]،  قال أهل العلم: وإذا كان المضحي لا يحسن الذبح وكَّل مسلماً وحضرها.

 ومما يفوت به من المصالح: شعور الإنسان بالتعبد إلى الله - تعالى - بالذبح نفسه؛ فإن الذبح لله من أَجَلِّ العبادات وأعظمها؛ ولهذا قرنه الله - تعالى - بالصلاة في قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾[الكوثر:2]  وقوله:﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:162]  واسأل - يا أخي المسلم - مَنْ بعث بقيمة أضحيته لخارج البلاد هل يشعر بهذه العبادة العظيمة وذكر اسم الله عليها والتقرب إلى الله بها أيام الذبح ؟ إنه لا يشعر إلا أنه أطعم فقراءً لحماً، هذا هو الذي يشعر به إلا أن يشاء الله .

 ومما يفوت ببعث الأضحية إلى الخارج من المصالح: ذكر اسم الله - تعالى - عليها وتكبيره، وقد أمر الله - تعالى - بذكر اسمه عليها فقال جلَّ وعلا: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافّ﴾[الحج:36]  وقال:﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [الحج:37]  وفي هذا دليل على أن ذبح الأضحية وذكر اسم الله عليها عبادة مقصودة لذاتها، ومن المعلوم أن نقلها إلى خارج البلد يفوت به هذا المقصود العظيم بل الأعظم، فإن هذا أعظم من مجرد الانتفاع بلحمها والصدقة به، اقرأ قول الله تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج:37] .

  ومما يفوت به من المصالح: أن الإنسان لا يأكل من أضحيته وهو مأمور بالأكل منها إما وجوباً أو استحباباً على خلاف في ذلك بين العلماء، قال بعض أهل العلم: يجب على الإنسان أن يأكل من أضحيته فإن لم يفعل فهو آثم، ولقد قدم الله الأمر بالأكل منها على إطعام الفقير فقال تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج:28]، فأكلُ المضحي من أضحيته عبادة يتقرب بها إلى الله ويثاب عليها لامتثاله أمر الله، ومن المعلوم أن بعثها إلى خارج البلاد يمنع الأكل منها؛ لأنه غير ممكن فيكون بذلك مفرطاً في أمر الله وآثماً على قول بعض العلماء .

  ومما يفوت به من المصالح: أن الإنسان يبقى معلقاً هل يقص شاربه ويقلم أظفاره؛ لأنه لا يدري أَذُبِحَتْ أضحيته أم لا، وهل ذُبِحَتْ يوم العيد أو في الأيام التي تليه، فيبقى معلقا، فهذه ست مصالح تفوت بنقل الأضاحي إلى بلاد أخرى .

 أما المفاسد فمنها: أن الناس ينظرون إلى أن هذه العبادة إذا بعثوا بها إلى خارج البلاد ينظرون إليها نظرة اقتصادية مالية محضة وهي مصلحة الفقير دون أن يشعروا بأنها عبادة يتقرب بها إلى الله، وربما يشعر أن فيها الإحسان إلى الفقراء، ولا شك أن هذا خير وعبادة لكنه دون شعور العبد بالتقرب إلى الله بالذبح، فإن في الذبح لله نفسه من تعظيم الله ما تربو مصلحته على مجرد الإحسان إلى الفقراء، ثم إن الفقراء في الخارج يمكن أن تنفعهم بإرسال الدراهم والأطعمة والفرش والملابس أو بلحم الأضاحي إذا ذبحتها في بلدك وأكلت منها فلا حرج أن تبعث بلحمها إلى الخارج إذا لم يكن في البلد فقراء يستحقون ذلك، أما أن تقتطع لهم جزءاً من عبادتك المهمة وهي الذبح لله عزَّ وجل وتبعث إليهم فهذا لا ينبغي أبداً .

 ومن المفاسد: تعطيل شعائر الله أو تقليلها في البلاد التي نقلت منها؛ لأن الناس يركنون إلى الكسل دائماً وإعطاء الفلوس مع الراحة أهون عليهم من مباشرة الذبح والتفريق، فإذا تتابع الناس على ذلك تعطلت هذه الشعيرة في البلاد إما من جميع الناس أو أكثرهم أو بعضهم .

 ومن المفاسد: تفويت مقاصد الموصين الأموات إذا كانت الأضاحي وصايا؛ لأن الظاهر من حال الموصين أنهم يريدون مع التقرب إلى الله منفعة ذويهم وتمتعهم بهذه الأضاحي ولم يكن يخطر ببالهم أن تنقل إلى بلاد أخرى قريبة أو بعيدة فيكون في نقلها مخالفة لما يظهر من مقصود الموصين، ثم إننا لا ندري - أيها الإخوة - وانتبهوا لهذه النقطة المهمة - لا ندري من يتولى ذبحها في البلاد الأخرى، هل هو على علم بأوصاف الأضحية المطلوبة أم سيذبح ما حصل بيده على أي حال كانت ؟ ولا ندري هل سيتمكن من ذبح هذه الأضاحي الكثيرة في وقتها أم لا ؟ فقد تكون الأضاحي التي دفعت قيمتها إلى هناك تكون كثيرة جداً فيتعذر الحصول عليها في أيام الذبح فتُأخَّر إلى ما بعد أيام الذبح كما جرى قبل ثلاث سنوات في منى؛ وذلك لأن أيام الذبح محصورة أربعة أيام فقط، ثم لا ندري هل ستذبح كل أضحية باسم صاحبها أو ستجمع الكمية ؟ فيقال مثلاً: هذه مائة رأس عن مائة شخص دون أن يعين الشخص وفي أجزاء ذلك نظر؛ لأنه لم يعين من هي له هذه الأضحية، كل هذا يحصل ببعث الدراهم إلى بلاد أخرى ليضحى هناك .

 أيها الإخوة، قد يلبس عليكم ملبس فيقول: إن التوكيل في ذبح الأضحية جائز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «وكَّل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يذبح ما بقي من هديه»(9) وجوابنا على هذا من وجهين، الوجه الأول: هل وكَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أضحيته ؟ أبداً لم يُوَكِّل أحداً يذبح أضحيته بل ذبح هو بنفسه، ثانياً: أن الهدي الذي وكَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في ذبح ما بقي منه كان عليه الصلاة والسلام قد أشرك عليًّا في هديه كما في صحيح مسلم؛ وعلى هذا فيكون علي - رضي الله عنه - شريكاً في هذا الهدي، والهدي الذي تطوع به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة ناقة، ذبح منها في يوم العيد في ضحى يوم العيد نحر منها ثلاثاً وستين بيده ثم أعطى عليَّ بن أبي طالب فنحر الباقي ليتفرغ صلى الله عليه وسلم لإفتاء الناس وتعليمهم، ثم إنه صلى الله عليه وسلم تحقيقاًَ لأمر الله بالأكل منها أمر أن يؤخذ من كل بعير قطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها فشرب من مرقها، فإذا تنزلنا أبلغ تنزل قلنا: هاتوا لنا من الأضاحي التي تذبح في أفريقيا أو في شرق آسيا، هاتوا لنا قطعاً منها نأكلها في يوم العيد وهذا شيء مستحيل .

 المهم - أيها الإخوة - أن لا تدفعكم العاطفة إلى الخروج عن المشروع في الأضحية، ضحوا هنا في بلادكم، وإذا أردتم الإحسان إلى إخوانكم فهذا أمر مطلوب ولكن الباب واسع في غير الأضحية، أسال الله - تبارك وتعالى - أن يجعلنا وإياكم مِمَّن يعبد الله على بصيرة ويدعو إليه على بصيرة، وأن يرزقنا التأسي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

----------------------- 

 

(1)   أخرجه الإمام أحمد 6 / 165، وابن ماجة (2901) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها .

(2)   أخرجه مسلم (1409)

(3)   أخرجه الإمام أحمد 2/54/59، والبخاري (134)، ومسلم (1177)، والترمذي (833) ابن ماجة (2929) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .  

(4)   جزء من حديث أخرجه البخاري (1849)، ومسلم (1206) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .

(5)   أخرجه أحمد في باقي مسند الأنصار (25192) والبخاري في كتاب الغسل (363) ومسلم في كتاب الحج (2054) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وأخرجه غيرهم .

(6)   أخرجه مسلم (1298) من حديث أم الحصين رضي الله عنها.

(7)   أخرجه البخاري (1843) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .

(8)   أخرجه البخاري (955) و (983)، ومسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه .

(9)   أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم (13918) والبخاري -رحمه الله تعالى- في صححه في كتاب المغازل (4005) ومسلم  -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج (3137) وغيرهم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه .