خطبة عقوبة المجرمين الشيخ محمد بن صالح العثيمين

عقوبة المجرمين
السبت 1 جانفي 2000    الموافق لـ : 24 رمضان 1420
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

الحمد لله الرحيم الرحمن ذي القوة والعظمة والسلطان شرع بمقتضى رحمته وحكمته عقوبة المجرمين منعاً للفساد ورحمة بالعباد وكفارة لذوي الجرائم والعناد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا معقب لحكمه ولا ند ولا مضاد وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين وقدوة للعاملين وحجة على من أرسل إليهم أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما

أما بعد

أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته عليكم بهذا الدين القويم الكامل الجامع بين الرحمة والحكمة رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في الأخذ بالطريق الموصل إلى الإصلاح أيها الناس إن من طبيعة البشر أن تكون لهم إرادات متباينة ونزعات مختلفة فمنهم من ينزع إلى الخير والحق ومنهم من ينزع إلى الشر والباطل كما قال الله عز وجل (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ )(التغابن: من الآية2) وقال جل ذكره (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (الليل:4) ولما كانت النزعات إلى الشر والباطل في ضرورة إلى ما يكبح جماحها ويكسر من حدتها من وازع إيماني أو رادع سلطاني جاءت النصوص الكثيرة بالتحذير من الشر والباطل والترغيب في الخير والحق وبيان ما يترتب على الشر والباطل من مفاسد في الدنيا وعقوبة في الآخرة وما يترتب على الخير والحق من مصالح في الدنيا ومثوبات نعيم في الآخرة ولكن لما كان هذا الوازع الديني لا يكفي في إصلاح بعض النفوس الشريرة الموغلة في الشر والباطل فرض رب العالمين برحمته وحكمته عقوبات دنيوية محددة أو مفوضة إلى نظر ذوي العدل من ولاة الأمور تتنوع هذه العقوبات بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتمحو الفساد وتعدل الأعوج وتظهر الملة وتقيم الأمة وتكفر جريمة المجرم السابقة فلا يجمع له بين عقوبة الدنيا والآخرة قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ومن أتى منكم حداً فأقيم عليه فهو كفارته ) فرض الله الحدود وأوجب على ولاة الأمور إقامتها على الشريف والوضيع والغني والفقير والذكر والأنثى والقريب والبعيد وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزوميه التي سرقت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فاهتمت قريش لذلك وقالوا من يشفع في هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظروا إلى حبيب رسول الله وابن حبيبه أسامة ابن زيد رضي الله عنه فشفع فيها أسامة فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً ( أتشفع في حد من حدود الله ) ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم فاختطب وقال ( إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ويم الله أي أحلف بالله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) الله أكبر هكذا الحق هكذا العدل يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق البار أن فاطمة بنت محمد وهي أشرف النساء نسباً وسيدة نساء أهل الجنة لو سرقت لقطع يدها الله أكبر أين الثريا من الثرى أين هذا القول من بعض الولاة اليوم الذين يرون أن إقامة الحدود وحشية وهمجية يستمعون إلى ما يقوله أعداء الإسلام فيتلقفونه كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون أين قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول الذي هو في غاية العدل من قوم يؤمرون بتنفيذ العقوبات فيفرقون بين شخص وآخر يفرقون بين الشريف والوضيع أو بين القريب والبعيد أو بين الصديق وغير الصديق أو لاعتبارات أخرى مع أن العقوبة واحدة وسببها واحد فيفرقون بين الناس يجلدون هذا جلد الحمار ولكنهم لا يجلدون الآخر وهو مثله وشريكه في العقوبة إلا جلداً لا يغني ولا ينفع لا يخافون من الله ولا يستحيون من عباد الله إن هذا لمنكر يجب أن يردع ويجب على من باشر إقامة الحد يجب عليه أن لا يفرق بين أحد وأن ينفذه حيث أمر به من غير زيادة ولا نقص أيها المسلمون إن أولئك الولاة اليوم الذين يرون إقامة الحدود وحشية وهمجية مستمعين إلى ما يقوله أعداء الإسلام ويتلقفونه كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءاً ونداءاً إنهم لو نظروا إلى البلاد التي تطبق هذه الحدود وتعاقب المجرم بما تقتضيه عقوبته حسب ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لو نظروا إلى مثل هذه البلاد وما تعيش فيه من الأمن وذلك بما عندها من الإيمان وإقامة حدود الله لوجدوا أن هذا القول أو أن هذا الرأي الذي يرى أن إقامة الحدود وحشية أنه من أبطل الآراء والأقوال أيها الناس إن مما أوجب الله فيه العقوبة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم شرب الخمر شرب الخمر المحرم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ) وأجمع المسلمون على تحريم الخمر فمن اعتقد أن الخمر حلال فهو مضاد لله مكذب لرسوله خارج عن إجماع المسلمين وقد قال الله تعالى (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115) وبهذا الإنكار أعني إنكار تحريم الخمر يكون كافراً مرتداً تجب استتابته فإن تاب وأقر بتحريمه وإلا قتل مرتداً كافراً ودفن بعيداً حتى لا يتأذى الناس برائحته اللهم إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام كرجل لم يسلم إلا قريباً لا يعرف شيئاً عن أحكام الإسلام فإنه يعلم أولاً ثم يحكم له بما تقتضيه حاله بعد العلم أما من شرب الخمر معتقداً تحريمها وأن شربها معصية فإنه تجب عقوبته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال أوتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فقال ( اضربوه ) قال أبو هريرة رضي الله عنه فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف هذا الرجل قال بعض القوم أخذاك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان ) وقال أنس ابن مالك رضي الله عنه جلد النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين وفي صحيح مسلم ثم جلد أبو بكر أربعين فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال ما ترون في جلد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف أرى أن تجعلها كأخف الحدود قال فجلد عمر ثمانين وإذا تكرر الشرب من الشارب وهو يجلد ولا يرتدع فقال ابن حزم رحمه الله يقتل في الرابعة وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقتل في الرابعة عند الحاجة إلى قتله حيث لم ينته الناس بدون القتل وهذا الذي قاله شيخ الإسلام ابن تيمية هو عين الفقه لأن الصائل على الأموال إذا لم يندفع إلا بالقتل فإنه يقتل فما بالكم بمن صال على أخلاق المجتمع وصلاحه وفلاحه وأمنه واستقراره إن ضرر الخمر لا يقتصر على صاحبه بل يتعداه إلى غيره وأقبح من الخمر وأشد فتكاً تلك الحبوب المخدرة التي تفسد العقول والنفوس والقيم ولقد اتخذت حكومتنا وفقها الله اتخذت موقفاً حازماً منها بقرار صادر بالإجماع من مجلس هيئة كبار العلماء أعلن عنه من وزارة الداخلية ونشر في الصحف في اليوم الحادي عشر من هذا الشهر يتضمن هذا القرار المبارك الذي نرجو الله تعالى أن يكون فيه دفع للفساد والشر يتضمن أن المهرب للمخدرات عقوبته القتل لما يسببه تهريب المخدرات وإدخالها البلاد من فساد عظيم لا يقتصر على المهرب نفسه وأضرار جسيمة وأخطار عظيمة على الأمة بمجموعها ويلحق بالمهرب الشخص الذي يستورد أو يتلقى المخدرات من الخارج يمون بها المروجين وأما بالنسبة لمروج المخدرات فإن من يروجها للمرة الأولى يعذر تعذيراً بليغاً بالحبس أو الجلد أو الغرامة المالية أو بها جميعاً حسب ما يقتضيه النظر القضائي وإن تكرر منه ذلك فيعذر بما يقطع شره عن المجتمع ولو كان بالقتل لأنه بفعله هذا يعتبر من المفسدين في الأرض وممن تأصل الإجرام في نفوسهم إنتهى هذا القرار وقد أمر الملك خادم الحرمين الشريفين حفظه الله أمر كلاً من وزارتي العدل والداخلية بالعمل بموجبه وتعميمه على المحاكم أيها المسلمون إن هذا القرار لقرار يثلج الصدر وإنه لقرار يرجى أن يكون فيه قطع لدابر هؤلاء المفسدين فنسأل الله تعالى أن يزيد ولاة أمورنا من فضله وأن يعينهم على كف الشر والفساد وتثبيت الصلاح والرشاد ونسأل الله تعالى لأولئك الذين ابتلاهم الله بهذه المخدرات نسأل الله أن يهديهم بوازع الإيمان قبل رادع السلطان ونسأل الله تعالى لمن من الله عليهم بالعصمة أن يكونوا عوناً لحكومتهم في القضاء على هذا الشر امتثالاً لقوله تعالى ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ واتقوا الله إن الله شديد العقاب )(المائدة: من الآية2) اللهم هئ لنا من أمرنا رشدا اللهم أجعلنا من دعاة الحق وأنصاره على بصيرة من عندك وحكمة يا رب العالمين إنك جواد كريم اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الحمد لله حمداً كثيراً كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الحمد في الآخرة والأولى وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليماً كثيرا

أما بعد

أيها المسلمون فإن عقوبة المجرمين وإقامة الحدود على المعتدين لا شك أنه من رحمة الله عز وجل لما فيه من المصالح العظيمة ليس على المعاقب وحده ولكن على المعاقب ومجتمعه أما المعاقب فإن عقوبته قد تكون سبباً لردعه عما كان واقعاً فيه من هذه المعصية وهي في نفس الوقت كفارة تكفر له الذنب السابق كما سمعتموه في الخطبة وأما بالنسبة للمجتمع فإنها تمنع كثيراً من الناس إذا رأوا العقوبة ولم يكن عندهم إيمان قوي يمنعهم من فعل المعاصي لكنهم إذا رأوا العقوبة فإن الردع السلطاني يمنعهم عن ذلك أما مصلحتها العامة أيضاً فإن المعاصي سبب لظهور الفساد في البر والبحر كما قال الله تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) فإذا التزم الناس طاعة الله عز وجل واتقوا ربهم فإن الله يقول (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (لأعراف:96) أيها الأخوة إن قرار الحكومة الذي سمعتموه لقرار نافع سبب لمنع ما يكون فيه الشر والفساد ولكن ينبغي لنا بل يجب علينا أن نكون عوناً لحكومتنا في درء الفساد ومنعه إما منعه بالكلية وإما تقليله على الأقل وأعلموا أيها المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا أصابه شئ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً فيجب علينا أن يشد بعضنا إزر بعض وأن نتعاون على البر والتقوى وأن نتواصى بالحق وبالصبر وبالمرحمة وبذلك نحقق قول الله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ) (آل عمران:110) إننا إذا شاهدنا المنكر وسكتنا عنه فإنه يوشك أن يعمنا الله تعالى بعقوبة من عنده نسأل الله العافية والسلامة اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن تصلح نياتنا وأعمالنا وذرياتنا وولاة أمورنا وجميع شعبنا وأن تكتب لنا ما فيه الخير والصلاح في ديننا ودنيانا يا رب العالمين ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين أمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون