تفريغ الخطبة
الحمد لله الذي أحكم ما شرع وأتقن ما صنعه حد لعباده الحدود وشرع لهم الشرائع وبيّن لهم كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم فسبحانه من ربٍ رحيم وإلهٍ حكيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكه له له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المصير وسلم تسليماً.
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى واعملوا أن الله فرض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها فرض عليكم الفرائض لتصلوا بها إلى أسمى الغايات وأعلى الدرجات في روضات الجنات ولتنجوا بها من عذاب النار والهلكات فرض عليكم فيما فرض الصلوات الخمس وأمركم بإقامتها والمحافظة عليها فأدوها كما أمرتم أدوها بشروطها وأركانها وواجباتها وكملوها بمستحباتها ولا تتهاونوا بها فتكونوا من الخاسرين أيها الناس إن كثيراً من المسلمين يتهاونون في صلاتهم فلا يؤدونها في الوقت المحدد لها فوقت الظهر من زوال الشمس وهو تجاوزها لوسط السماء وعلامته ابتداء زيادة الظل بعد انتهاء قصره يمتد وقتها من الزوال إلى دخول وقت العصر وذلك بأن يكون ظل الشيء مساوياً له من ابتداء ظل الزوال وعلى هذا فلا يحسب الظل الذي كان قبل الزوال وينتهي وقت العصر باصفرار الشمس في حال الاختيار وبغروبها في حال الضرورة ثم يدخل وقت المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر حوالي ساعةٍ ونصفٍ من الغروب ثم يدخل وقت العشاء إلى نصف الليل هذه أربع صلواتٍ أوقاتها متوالية لا فصل بينها كلما خرج وقت صلاةٍ دخل وقت الأخرى أما الفجر فوقته منفصل لا يتصل بالعشاء ولا يتصل بالظهر وقت الفجر من طلوع الفجر الصادق وهو البياض المعترض في الأفق إلى طلوع الشمس وهذه كما علمتم بينها وبين صلاة العشاء من نصف الليل إلى طلوع الفجر وبينها وبين الظهر من طلوع الشمس إلى زوالها قال الله عز وجل (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)(الاسراء: من الآية78) وهذه تستوعب أوقات الصلوات الأربع الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم فصل وقال ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)(الاسراء: من الآية78) يعني صلاة الفجر وسماها الله قرآناً لطول القراءة فيها ( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)(الاسراء: من الآية78) وبهذا جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل وقت العشاء إلى نصف الليل وعلى هذا فلا وقت للعشاء بعد منتصف الليل لا وقت ضرورة ولا وقت اختيار فلا يحل للمسلم أن يقدّم من صلاته جزءاً قبل الوقت ولا أن يؤخر منها جزءاً بعده فكيف بمن يؤخرون جميع الصلاة عن وقتها كسلاً وتهاوناً وإيثاراً للدنيا والراحة على الآخرة يتنعمون بنومهم على فرشهم ويتمتعون بلهوهم ومكاسبهم كأنما خلقوا للدنيا كأنهم لا يقرؤون القرآن كأنهم من غير المسلمين كأنهم لم يبلغهم قول الله عز وجل (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) (الماعون:4) (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون:5) كأنهم لا يقرؤون قول الله عز وجل (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59) (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (مريم:60) كأني بهم لا تبلغهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في وعيد من أضاع الصلاة أو بلغته ولكن لم يبالوا بذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله) أي كأنما أصيب بفقد أهله وماله فسبحان الله يا عباد الله ما أعظم الأمر وما أفدح الخسارة الذي تفوته صلاة العصر كأنما فقد أهله وماله فأصبح أعزب بعد التأهل وفقيراً بعد الغنى هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا ينطق عن الهوى إنني أسألكم لو تصورتم أن شخصاً من بينكم كان له أموال وأهل وكان مسروراً في ماله وبين أهله ثم أصيب بجائحةٍ أتلفت أمواله وأهلكت أهله فماذا تكون حالكم بالنسبة إليه؟ إنكم لا بد أن ترحموه ولا بد أن تواسوه في هذه المصيبة ولا بد أن تقدموا له العزاء بذلك ومع هذا وللأسف الشديد ترون كثيراً من الناس تفوتهم صلاة العصر وصلواتٌ أخرى ولا تحزنون لذلك ولا تبالون بما حدث مع أن مثل هذه المصيبة في الدين لا تقتصر على صاحبها فإن الله عز وجل يقول )وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (لأنفال:25) وإن من الناس الذين يصلون تجدهم يتهاونون بالطهارة لا يبالون بما يصيبهم من البول يطير رشاش البول على ثيابهم أو على أبدانهم ثم لا يغسلونه وأقبح من ذلك أن الواحد منهم يبول ثم يقوم من بوله لا يستجمر ولا يستنجي أو يستجمر استجماراً لا ينفي وإستنجاءً لا يكفي فيتلطخون بالبول ولقد قال كثيرٌ من أهل العلم إن الوضوء لا يصح إذا لم يستنجي الإنسان بعد البول أو يستجمر إستجماراً مجزيا فيكون من لم يستنجي أو يستجمر بعد بوله قد صلى متلوثا بالنجاسة أو بدون وضوءٍ صحيحٍ على هذا القول ولقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين فقال (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستبريء من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) أفترضى يا أخي المسلم افترضي أن تكون أول ما تفاجأ به في قبرك أن تفاجأ بعذاب الله افترضي أن تخرج من أهلك الذي كنت فيهم مسروراً منعما إلى قبرٍ تكون فيه محزوناً معذباً إنك لمستحقٌ لذلك إذا لم تتق الله وتتنزه من بولك إن قيام الإنسان من بوله بدون إستجمار أو استنجاء لأمر ينفر منه صبيان المسلمين فكيف ترضى لنفسك أمراً ينفر منه صبيان المسلمين فاتق الله أيها المسلم وتب إلى ربك وتنقى من بولك ومن كل نجاسةٍ تصيبك وإن مما يتهاون به بعض الناس في الصلاة الخشوع فتجده لا يخشع في صلاته والخشوع ليس هو البكاء ولكن الخشوع حضور القلب وسكون الأعضاء فأما حضور القلب فإن كثيراً من الناس إذا دخل في الصلاة بدأ قلبه يتجول يميناً وشمالاً في التفكير والهواجيس ومن عجبٍ أنه لا يفكر في هذه الأمور قبل أن يدخل في الصلاة وأعجب من ذلك أنه يفكر في أمورٍ لا فائدة منها غالبا فهي لا تهمه في شؤون دينه ولا دنياه ولكن الشيطان يجلبها إليه ليفسد عليه صلاته ولهذا تجده يخرج من صلاته وما استنار بها قلبه ولا قرت بها عينه ولا انشرح بها صدره ولا قوي بها إيمانه لأنها صارت عبارةً عن حركاتٍ كحركات الآلة وإنها هذا الداء أيها الأخوة أعني الهواجيس في الصلاة لداءٌ مستفحل ومرضٌ منتشر ليس عامة الناس ولكن بين عامة الناس وخواصهم حتى ذوي العلم منهم والعبادة إلا من شاء الله ولكن لكل داءٍ دواءٌ ولله الحمد فإذا أحس الإنسان بهذه الهواجيس فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم سواءٌ كان قائماً أو راكعاً أو ساجداً أو قاعداً إذا أحس بذلك فليتفل عن يساره وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم فإن كان في جماعة فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولا يتفل عن يساره لئلا يؤذي من كان حوله ولا بأس للإنسان إذا كان منفرداً وأحس بذلك وتفل عن يساره لا بأس أن يلتفت لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك والالتفات هنا لمصلحة الصلاة وليس عبثاً وليستحضر الإنسان إذا دخل في صلاته أنه واقفٌ بين يدي الله عز وجل الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وليتدبر ما يقول في صلاته وما يفعل فلعل الله أن يذهب عنه ما يجد وأما سكون الجوارح فإن كثيراً من المصلين لا تسكن جوارحه في صلاته تجده يعبث بيديه أو رجليه أو عينيه أو رأسه يحرك يده ينظر إلى ساعته يعبث في لحيته يقدم رجله ويردها يرفع بصره إلى السماء يدير بصره يميناً وشمالاً ومن المعلوم أن رفع البصر إلى السماء في الصلاة ينافي الأدب مع الله عز وجل ولهذا كان رفع البصر إلى السماء والإنسان يصلي كان حراماً لأن النبي صلى الله عليه و سلم حذر منه تحذيراً بالغاً وقال فيه قولاً شديداً وقال (ما بال أقوامٌ يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم) فأشتد قوله في ذلك حتى قال ( لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم) ولقد رأيت قولاً لبعض العلماء يقول فيه إن الإنسان إذا رفع بصره إلى السماء وهو يصلي بطلت صلاته وعليه أن يعيدها من جديد وهذا خطرٌ عظيم فلا يحل للإنسان الذي يصلي أن يرفع بصره إلى السماء وقد شاهدت بعض الناس إذا رفع رأسه من الركوع رفع بصره ووجهه إلى السماء وهذا حرامٌ عليه فاتقوا الله أيها المسلمون واحذورا أن تتعرضوا لعقوبة الله أما الحركة التي لمصلحة الصلاة فهذه لا بأس بها بل هي مطلوبة ولهذا أخّر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباسٍ رضي الله عنهما حين صلى معه فوقف رضي الله عنه عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ برأسه من ورائه فجعله عن يمينه فإذا تحرك المصلي لتعديل الصف أو للقرب من جاره أو للدخول في الصف المقابل له أو جر أخاه لسد الخلل بينهما فكل ذلك جائز بل هو مطلوب لأنه من تكميل الصلاة فاتق الله أيها المسلم في صلاتك اتخذها عبادةً لا عادة اخشع فيها لربك أحضر قلبك سكّن جوارحك فإن الله يقول (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون:1) (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:2) وفقني الله وإياكم للقيام بعبادته والإخلاص له والمتابعة لرسوله ووقاني من الزيغ والفتن إنه جوادٌ كريم برٌ رحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كره ذلك من أشرك به وكفر وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر الشافع المشفع في المحشر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحبٍ ومعشر وعلى التابعين لهم بإحسانٍ ما بدا الفجر وأنور وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد