خطبة التحذير من إرسال ثمن الأضاحي إلى بلادٍ أخرى غير بلد المضحي وبيان حكم ذلك الفعل الشيخ محمد بن صالح العثيمين

التحذير من إرسال ثمن الأضاحي إلى بلادٍ أخرى غير بلد المضحي وبيان حكم ذلك الفعل
السبت 1 جانفي 2000    الموافق لـ : 24 رمضان 1420
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

الحمد لله، أحمده وأشكره وأتوب إليه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد:

أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعبدوا الله - تعالى - على بصيرة، اعبدوه على علم وبرهان من شريعة الله؛ حتى تكونوا من العالمين العاملين بالحق حتى يشملكم قول الله - عزَّ وجل - فيما ذكر عن عباده: +وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [العصر:1-3] فاستثنى الله - تعالى - من الإنسان الخاسر هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الأوصاف الأربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا يمكن عمل صالح إلا بمعرفة شريعة الله؛ لأن العمل لا يكون صالحاً إلا بأمرين، الأول: الإخلاص لله عزَّ وجل، والثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن تتحقق المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالعلم بشريعته؛ ولهذا كان العلم مقدماً على العمل؛ لأنه لا عمل إلا بعلم، قال البخاري في صحيحه: بابُ العلم، قبل القول والعمل ثم استدل بقوله تعالى: +فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" [محمد:19] .

 أيها الإخوة، إن بين يدي الآن نشرة من لجنة الإغاثة الخيرية للمهاجرين الأفغان تدعو إلى أن يبذل الناس قيمة الضحايا إليهم؛ من أجل أن يضحوا هناك في أفغانستان، ولا شك أن البذل للمهاجرين الأفغان بذل في عمل صالح؛ لأن فيه إعانة لهم على ما يحتاجون إليه من طعام وشراب وكسوة ومأوى، ولا شك أيضاً أن البذل في الجهاد في أفغانستان من الأمور التي تقرب إلى الله عزَّ وجل؛ لأن البذل في كل جهاد يراد به أن تكون كلمة الله هي العليا بذل مفيد لصاحبه قَرَنَهُ الله - تعالى - بالجهاد في سبيل الله بالنفس، بل إن الآيات الكريمة تقدِّم الجهاد بالمال على الجهاد في النفس في كتاب الله عزَّ وجل، ولكن هذه الدعوة دعوة ناشئة عن جهل؛ وذلك لأن الأضاحي من الشعائر التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أمر الله بها في كتابه في قوله تعالى: +فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" [الكوثر:2] وجعلها الله - تعالى - قرينة الصلاة في هذه الآية وفي قوله تعالى: +قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام:162]، وقد سمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الأضاحي نسكاً .

 إذاً: فنسيكة الأضاحي شعيرة من شعائر الإسلام والأضاحي لها شعائر تتبعها؛ ولذلك إذا كان الإنسان يريد أن يضحي فدخل عشر ذي الحجة فإنه لا يجوز له أن يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئاً، وهذه  العناية من الشارع بهذه الأضاحي تدل على أهميتها وأنها شعيرة من شعائر الإسلام وهذا من حكمة الله، حيث جعل لبلاد الإسلام التي لم يقدر لأهلها أن يحجوا، جعل لهم بدل الهدي هذه الأضحية يُتَقَرَّبُ بها إلى الله ويتنعمون بالأكل منها مما رزقهم الله عزَّ وجل؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عزَّ وجل» .

 إن هذه الدعوة  المبنية على حسن نية فيما نظن مبنية على جهل؛ وذلك لأن هذه الدعوة تفضي إلى أن تتعطل بلاد من هذه الشعيرة إذا صرف الناس قيمة أضاحيهم إلى بلاد أخرى، والشارع له نظر عظيم في أن تقام شعائر الإسلام في كل مدينة، وهذه الدعوة غلط ولا ينبغي أن تُنْشر هذه الدعوة؛ لأنها تفضي إلى ما قلت، تفضي أولاً إلى تعطيل هذه الشعيرة الإسلامية من بلاد المسلمين، وثانياً: تفضي إلى أن الإنسان لا يأكل من أضحيته وقد قال الله عزَّ وجل: +فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" [الحج:28]، وذهب بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى أنه يجب على الإنسان أن يأكل من أضحيته، قال تعالى:+فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" [الحج: 28]، وذهبَ بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى انه يجب على الإنسان أن يأكل من أضحيته؛ لأن الله - تعالى - أمر بذلك والأصل في أوامر الله الوجوب، فإذا صرف قيمتها على بلاد أخرى فمتى يأكل منها .

 إذاً: يكون أخَلَّ بواجب، أو على الأقل أخَلَّ بمطلوب من الشرع، حيث أنه لم يأكل من أضحيته، ثالثاً: أنه إذا صرف قيمة الأضحية إلى بلاد أخرى فاته المراقبة على أضحيته أو تولى ذبحها بنفسه، وقد ثبتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان يضحي فيذبح أضحيته بنفسه» فإخراجها إلى بلاد أخرى يؤدي إلى ترك هذه السنة التي سنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، رابعاً: أنه إذا كانت الأضاحي من الوصايا فإن الظن بالذين أوصوا بها أن تكون الأضحية عند ذريتهم يتمتعون بها ويتنعمون بها ويذكرون موتاهم بها، فإذا أرسلناها إلى بلاد أخرى فات هذا الغرض المضمون من الموصين، قد يقول قائل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكَّل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يذبح بقية هديه في منى عام حجة الوداع وهذا يدل على جواز التوكيل في الأضاحي؛ لأن الأضاحي كالهدي، فنقول في الجواب على ذلك: وهل وكَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً أن يذبح أضحيته عنه ؟ ثم نقول: إن توكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب أن يذبح بقية الهدي كان لأسباب لا يمكن أن توجد في التوكيل في ذبح أضحية واحدة؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم - أهدى في حجته مئة بدنة، فذبح منها صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بيده الكريمة، قال أهل العلم: وهذا من المناسبات الغريبة؛ لأنه ذبح ثلاثاً وستين بدنة وكان عمره الشريف ثلاثة وستين سنة، فكان ما ذَبَحَهُ بيده مطابقاً لسنوات عمره المباركة صلوات الله وسلامه عليه؛ ولأن علي بن أبي طالب كان شريكاً له في الهدي كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون لعلي شركة في ذبح هذا الهدي؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مسؤولاً عن أمته فكان مشتغلاً بحوائج الناس، فلو اشتغل في ذبح بقية هذه المئة لصده ذلك عن كثير من حوائج المسلمين؛ ومن أجل ذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخذ من كل بدنة قطعة وتوضع في قدر فتطبخ فأكل من لحمها وشرب من مرقها تحقيقاً لقوله تعالى: +فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ"[الحج: 28] .

 أيها المسلمون، إن البذل للمجاهدين في أفغانستان والبذل للعوائل الفقيرة هناك لاشك أنه بذل في محله وأنه مما يقرب إلى الله، كما أن البذل للمجاهدين في موريتانيا وفي غيرها من بلاد المسلمين بذل في محله إذا علمنا أنهم يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، وأظن أن الصواب بذل في إريتريا؛ لأنهم يجاهدون؛ لأن الحبشة كانت استولت على بلادهم فهم يجاهدون ليخلصوا بلادهم من حكم الحبشة الظالمة الكافرة، فالبذل لهؤلاء الإخوة بذل في محله، أسأل الله أن يعينهم وأن يوفق المسلمين لإعانتهم بالمال والجاه وغير ذلك، ولكني أقول: أيها الإخوة، إن العاطفة إذا خلت من العقل وخلت من الشرع فإنها تكون عاصفة؛ لأن الإنسان إذا اندفع بعاطفته دون تعقل ونظر في الشرع فإنه يخطئ كثيراً؛ ولذلك ينبغي لنا إذا كان فينا عاطفة أن نرجع إلى العقول وإلى الشرع؛ حتى يكون تصرفنا متزناً على الوجه الذي ينفع ولا يضر، ولا شك أن العقل إذا خلا عن عاطفة فإنه يكون معطلاً لا حراك فيه، وإن العاطفة إذا خلت من العقل فإنها قد تكون هوجاء فتثمر ثمرات غير جيدة ولا محمودة، والشرع فوق كل ذلك لابد أن يكون المرجع إليه بكل حال، أسأل الله - عزَّ وجل - أن يوفقنا جميعاً للتصرف فيما يرضيه على الوجه الذي يكون مطابقاً لشريعته موافقاً لمرضاته، وأن يوفقنا جميعاً لنصر إخواننا المسلمين في كل مكان بكل ما نستطيعه؛ لأنهم إخواننا يجاهدون لإقامة الدين الذي تقوم عليه الدنيا والآخرة، فإنه لا سعادة للمسلمين إلا بقيام دينهم، ولا أمن ولا استقرار إلا بقيام دينهم .

 اللهم إني أسألك أن تصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم هيئ لهم ولاة صالحين يقودونهم بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين، اللهم مَنْ كان مِنْ ولاة أمور المسلمين غير قائم بشرعك ولا مصلح لعبادك فاهده إلى الحق أو أبدله بخير منه يا رب العالمين، اللهم أصلح لولاة أمور المسلمين بطانتهم، اللهم هيئ لهم بطانة صالحة تدلهم على الخير وتحثهم عليه وتُبين لهم الشر وتحذرهم منه يا رب العالمين، اللهم مَنْ كان مِنْ بطانة ولاة أمور المسلمين غير ناصح لهم ولا لرعيتهم فأبعدهم عنهم وأبدلهم بخير منهم إنك على كل شيءٍ قدير، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين وعن زوجاته أمهات المسلمين والتابعين لهم  بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عنا معهم بمنك وكرمك يا رب العالمين، +رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ"[الحشر: 10] .

 عباد الله،+إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" [النحل:90-91]، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم +وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" [العنكبوت:45].