خطبة دروس شهر رمضان الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

دروس شهر رمضان
الجمعة 14 نوفمبر 2003    الموافق لـ : 19 رمضان 1424
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

دروس رمضان

خطبة جمعة بتاريخ / 2-9-1428هـ

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه ومبلغ الناس شرعه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين , أما بعد:

معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله تعالى فإن تقواه عز وجل أساس السعادة وسبيل الفلاح في الدنيا والآخرة .  عباد الله : أطلت علينا أمّةَ الإسلام ليالي رمضان المباركات وأيامه الغرُّ الباسقات ، أقبَل علينا بما أودع الله فيه من الخيرات المتنوعات ، والهبات المتعددات ، والبركات الكثيرات ، والعتق من النيران .

عباد الله : إن حلول الشهر ودخوله بشارة عظمى لأمّة الإسلام , وفرحةٌ كبرى لأمة الإيمان ، وكرامة كريمة لأهل القرآن ؛ ألا فلنهنأ - عباد الله - بما منَّ الله علينا وأكرمنا به من دخول هذا الشّهر المبارك العظيم الكريم ، والواجب علينا - عباد الله - أن نفرح عظيم الفرح بقدومه وأن نهيئ أنفسنا تمام التهيئة للاستفادة من عظاته البالغات ودروسه النافعات .

عباد الله : إن شهر رمضان شهر دروسٍ عظيمة وعبرٍ جليلة ينبغي على كل من أدركه شهر الصوم أن يستفيد من دروسه وأن يفيد من عبره وأن لا يمضي هذا الشهر ضياعاً عليه من الخير وحرماناً من الفضيلة والعطاء .

عباد الله : إن شهر رمضان مدرسةٌ تربوية مباركة على العبادات الكاملات والأخلاق الفاضلات والطّاعات المتنوعات التي جعل الله جلّ وعلا لهذا الشهر الكريم مزيد خصوصية فيها .

عباد الله : إنّ مما يُربي عليه شهر الصيام تقوى الله جل وعلا كما قال الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٨٣] ؛ فالصيام عباد الله يربي على التقوى ، ومن التقوى التي يربي عليها الصيام : البعد عن الحرام واجتناب الآثام ، أرأيتم - عباد الله - أن عبد الله الصائم يدع شرابه وطعامه وشهوته لأجل الله تبارك وتعالى وخوفاً من الله ورغبةً في موعوده الكريم وثوابه العظيم ؛ وفي هذا تربيةُ مثلى على اجتناب الحرام والبعد عن الآثام.

ومما يربي عليه الصيام - عباد الله - : الإخلاص للمعبود جل وعلا فإن الصيام سرٌّ بين الله وبين الصائم لا يطلع عليه إلا الله جل وعلا ، ولهذا قال الله سبحانه في الحديث القدسي: ((الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) ، قال جل وعلا عن الصائم: (( يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي )) ؛ فهذه عباد الله تربية للصّائم على الإخلاص لله في عباداته كلها وطاعاته جميعها .

ومما يربي عليه شهر الصيام : الصبر بأنواعه ؛ الصبر على طاعة الله , والصبر عن معصية الله , والصبر على أقدار الله ، وقد ثبت في المسند عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ )) ، وفي هذا وصفٌ من نبينا عليه الصلاة والسلام لشهر الصيام بأنه شهر الصبر وذلك لما فيه من التربية على الصبر بأنواعه : الصبر على الطاعات ، والصبر عن المعاصي والآثام ، والصبر على أقدار الله المؤلمات.

ومما يربي عليه شهر الصيام : المنافسة في الطاعات والتسابق في العبادات بأنواعها ، ففي الترمذي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (( إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَنَادَى مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ )) فهو شهرٌ يتنافس فيه المؤمنون ويتسابق فيه المجدُّون بأنواع الطاعات والعبادات يرجون رحمة رب الأرض والسّماوات .

ومما يربي عليه شهر الصيام : التربي على مأدبة القرآن ؛ فإن لرمضان خصوصيةً في القرآن ، كيف لا وقد قال الله جل وعلا : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة:١٨٥] ، وكان بعض السلف إذا دخل شهر رمضان يقول: " إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام " .

ومما يربي عليه شهر الصيام عباد الله : مواساة المحاويج ومساعدة الفقراء ودفع الصدقات وبذل الإحسان ؛ فهو شهر كرمٍ وإنفاق وبذلٍ وعطاء وجودٍ وسخاء , والصائم - عباد الله - يحس بحاجة الناس عندما يذوق شدة الجوع وألم العطش فيدرك حاجة الفقراء فتسخو نفسه ويكثر جوده ويعظم إحسانه ويعظم تقربه إلى الله بالبذل والإنفاق.

ومما يربي عليه شهر الصيام عباد الله : الإقبال على الله بالتوبة والإنابة وطلب الغفران ؛ عباد الله : ومن لم يتحرك قلبه في شهر الصيام للتوبة إلى الله والإنابة إليه وطلب غفران الذنوب فمتى عساه أن يتحرك ؟ وفي الحديث الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ )) عياذاً بالله من ذلك .

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تكتب لنا في شهرنا هذا الغفران من الذنوب والعتق من النيران والهداية لكل خير ، وأن تجعله شهر عزٍّ ورفعة لأمة الإسلام في كل مكان .

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل والجود والامتنان , وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد عباد الله : إن ليالي رمضان ليال مباركة , وأيام رمضان أيام خيرٍ وجِدٍّ وذكرٍ لله جل وعلا .

عباد الله : ليس شهر رمضان شهر خمولٍ وكسل وتوانٍ وعجز ؛ بل هو شهر جدّ واجتهاد ومنافسةٍ في الخيرات ، وأعظم الناس أجراً في شهر الصيام أكثرهم ذكراً لله جل وعلا ، وقد جاء في المسند عن معاذ الجهني رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أَيُّ الصَّائِمِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا )) ، وسُئل عن المصلين وعن الحجاج وعن المتصدقين وفي ذلك كله يقول : ((أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا )) أي أعظمهم أجراً في كلّ طاعة أكثرهم ذكراً لله فيها . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( أَجَلْ )) . فينبغي على المسلم أن يغنم هذا الشهر بالإكثار من ذكر الله تلاوةً لكتابه وتسبيحاً وتهليلا وحمداً وتكبيرا واستغفاراً وتوبة وعملاً واجتهادا في كلِّ ما يقرب إلى الله جل وعلا , ونسأل الله عز وجل أن لا يكلنا إلى أنفسنا ، وأن لا يكلنا إلا إليه وأن يعيننا على طاعته على الوجه الذي يحبه ويرضاه.

وصلوا وسلموا رعاكم الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا))  .

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد , وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين , وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واحم حوزة الدين يا رب العالمين. اللهم آمنّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ربَّ العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك.

اللهم آت نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر.

اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يقربنا إلى حبك . اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم , ونعوذ بك من الشرِّ كلِّه عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم . اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها أولها وآخرها سرها وعلنها . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . اللهم إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه وآلاءه يزدكم ، ) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( .