تفريغ الخطبة
الحث على اغتنام الإجازة الصيفية في أعمال البر
خطبة جمعة بتاريخ / 23-4-1425 هـ
إن الحمد لله نحمده نستعينه نستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه ومبلغ الناس شرعه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد معاشر المؤمنين عباد الله : أوصيكم ونفسي بتقوى الله ؛ فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .
عباد الله : إننا نستقبل في هذه الأيام الإجازةَ الصيفية وذلك بعد إمضاء عامٍ دراسيٍّ كامل في الجد والمذاكرة , والبذل والتحصيل على تفاوُتٍ في الهمم وتباين في العزائم .
عباد الله : والسؤال الذي يطرحُ نفسه في هذه الأيام ؛ ما الذي ينبغي على طالب العلم والمسلم الجادِّ أن يفعله في هذه الإجازة المقبلة ؟ وعدد أيامها مائةُ يومٍ تقريبا ؛ وهو وقتٌ طويل وأيامٌ عديدة ولحظاتٌ عزيزة ستمُرُّ وتذهب سريعا ، أيناسب - عبادَ الله - أو يليق بالمسلم أن يتركها تذهب وتضيع دون أن يغتنمها في الخير !! ودون أن يتزوّد فيها بزاد التّقوى !! وهل أيام الإجازة - عباد الله - ليست معدودةً في حياة الإنسان وعمره فيتركها تذهب وتنصرم بدون تحصيلٍ لفائدة أو اغتنامٍ لها في طاعة أو خير ؟! أَأَيامُ الإجازة - عبادَ الله - ليست أيامَ طلبٍ للعلم وتحصيلٍ للإيمان وتزودٍ بزاد التقوى والصلاح ؟! مائة يوم - عباد الله - مائة يوم من حياتنا ستمر , وأوقات غاليةٌ ستذهب فما نحن صانعون فيها ؟
معاشر المؤمنين : إن وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة ، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم أو العذاب الأليم وهو يمر مر السّحاب ، لم يزل الليل والنهار سريعِيْن في نقص الأعمار وتقريب الآجال ، صَحِبَا قبلنا قوم نوحٍ وعادٍ وثمود وقروناً بين ذلك كثيرا ؛ فأصبح الجميع قد قدِموا على ربهم ووردوا على أعمالهم وتصرَّمت أعمارهم وبقي الليل والنهار غضَّيْن جديدين في أُمَمٍ بعدهم ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان:62] . ينبغي للمسلم - عباد الله - أن يتخذ من مرور الليالي والأيام عبرةً وعظة ؛ فإن الليل والنهار يُبلِيان كل جديد , ويُقَرِّبان كل بعيد , ويطويان الأعمار , ويُشيِّبان الصغار , ويفنيان الكبار , وهذا كله مشعِرٌ بتولي الدنيا وإقبال الآخرة , قال علي رضي الله عنه: " ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ " ، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: " إنّ الدنيا ليست بدار قراركم ؛ كتب الله عليها الفناء , وكتب الله على أهلها الظَّعَن - أي الارتحال - فكم من عامرٍ موثَق عن قليلٍ يخرَب , وكم من مقيمٍ مغتبِط عما قليلٍ يظْعن , فأحسِنوا منها الرحلة بأحسنِ ما بحضرتكم من النُّقْلة ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " .
عباد الله : إن العبد في هذه الحياة في هدمٍ لعمره منذ خرج من بطن أمه بل هو كما قال الحسن البصري رحمه الله: أيامٌ مجموعة - أي الإنسان - فكلما ذهب يوم ذهب بعض الإنسان وجزءٌ منه ، اليوم منه يهدم الشهر, والشهر يهدم السنة , والسنة تهدم العمر , وكل ساعة تمضي من العبد فهي مُدْنيةٌ له من الأجل .
قال ابن مسعود رضي الله عنه: " ما ندمتُ على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسه ؛ نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي " وهذا من شدة حرصه على الوقت رضي الله عنه . وهذا شأن السلف عموما .
قال الحسن البصري رحمه الله: " أدركتُ قوماً كانوا على أوقاتهم أشدُّ منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم".
ولهذا - عباد الله - فإن من أمضى يومه في غير حقٍ قضاه , أو فرض أداه , أو مجد أثَّله , أو حمدٍ حصَّله, أو خيرٍ أسّسه, أو علمٍ اقتبسه , فقد ظلم يومه , فقد ظلم يومه .
إن الليالي والأيام - عباد الله - هي رأس مال الإنسان في هذه الحياة ؛ ربحها الجنة وخسرانها النار , السَنَةُ شجرة , والشهور فروعها , والأيام أغصانها , والساعات أوراقها , والأنفاس ثمارها , فمن كانت أنفاسه - عباد الله - في طاعة الله فثمرة شجرته طيبة مباركة , ومن كانت أنفاسه في معصية الله فثمرتها مُرٌّ وحنظل .
عباد الله : لقد تكاثرت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أهمية الوقت والحث على اغتنامه والتحذير من إضاعته وبيان أن العبد مسئول عنه يوم القيامة ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه : ((اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك , وصحتك قبل سقمك , وغناك قبل فقرك , وفراغك قبل شغلك , وحياتك قبل موتك )) ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ )) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ )) ؛ قال بعض أهل العلم : إن من استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون ؛ لأن الفراغ يعقُبُه الشغل , والصحة يعقبها السَّقَم . ومما يؤثر عن السلف عباد الله قولهم : " من علامة المقْتِ إضاعة الوقت " . بل قال ابن القيم رحمه الله : " إضاعة الوقت أشد من الموت ؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة ، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها " .
إن الواجب علينا - عباد الله - أن لا نغتر بالدنيا فإن صحيحها يسقم , وجديدها يبلى , ونعيمها يفنى , وشبابها يهرم ، ومن كان في هذه الدنيا فهو في سيْرٍ متواصلٍ إلى الدار الآخرة ؛ لأن الآجال منقوصة , والأعمال محفوظة والموت يأتي بغتة , فمن زرع خيراً - عباد الله - فيوشك أن يحصد ثوابه وأجره , ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامةً وحسرة , ولكل زارعٍ ما زرع .
اللهم وفقنا لما تحب وترضى , وأعنا على البر والتقوى , واستعمِلْ أوقاتنا في طاعتك وما يرضيك , واجعل ما نستقبله من أيامنا إلى طاعتك مغنماً وسلَّما , اللهم ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان , واسع الفضل والجود والامتنان , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلَّم تسليماً كثيرا . أما بعد عباد الله : فاتقوا الله تعالى .
ثم اعلموا - رحمكم الله - أن الإجازة الصيفية فرصةٌ مباركة ووقتٌ سانحٌ للجميع لاغتنام هذا الوقت فيما يرضي الله وما يقرِّب منه سبحانه من سديدِ الأعمال وصالحِ الأقوال , وإن من أهم ما ينبغي علينا - عباد الله - ونحن نستقبل هذه الإجازة أن ننوي نيةً صادقة وأن نعزم عزيمةً أكيدة على استعمال هذه الإجازة في طاعة الله , وأن نحذر - عباد الله - من أن ننوي نوايا غيرَ طيِّبَة نمضي فيها أيام هذه الإجازة , وإن الله جل وعلا إذا علِم من عبده صدق نيته وصلاح همته وتمام رغبته يسَّر له الخير وفتح له أبوابه وهيأ له سبله ، والتوفيق بيد الله وحده.
عباد الله : وإن مما تُغتنم به هذه الإجازة تحصيلُ العلم النافع , ومن نعمة الله علينا ما يُعقد في أيام الإجازة من الدّورات العلمية النافعة التي يقوم بها أهل العلم وطلابه , ولهذا - عباد الله - ينبغي على الآباء وأولياء الأمور أن يشجِّعوا أبناءهم وأن يأخذوا بأيديهم وأن يحفّزوهم في المشاركة في هذه الدورات ، وفي هذه الأيام تعقد في المدينة دورتان علميتان نافعتان مُعلنٌ عنهما على أبواب المساجد ؛ فينبغي على ولي الأمر أن يطالع برامج هذه الدورات وأن يشجع ابنه وأن يتابعه وأن يضع له الحوافز والمشجِّعات ليُحصِّل خيرا ويغتنم غنيمةً عظيمة .
وإني أهمس في أذنك أيها الأب فأقول ناصحاً ومذكرا : إن جلوس ابنك في حِلَق العلم ومجالس الذكر ورياضه النافعة ينعكس عليك وعلى بيتك بالخير والبركة ، وتكون قد اتقيت الله بابنك حيث دللته إلى الخير وهيأت له سبله وفتحت له أبوابه ليحصِّل من العلم الذي هو زاده حقيقةً في هذه الحياة , ليمشي في حياته على بصيرة ونور من الله يعلم دينه ، ويعلم كيف يطيع ربه ، ويعلم كيف يَبَرُّ أباه وأمه , ويعلم كيف يقوم بحقوق عباد الله ، كل ذلك لا يحصَّل إلا بالجلوس في مجالس العلم ، وخير مجالس العلم - عباد الله – المساجد .
ونسأل الله جل وعلا أن يصلح أبناءنا وبناتنا ، وأن ينشِّئهم على الخير ، وأن يجعلهم أبناء بارِّين صالحين ، وأن يأخذهم إلى صراطه المستقيم ، وأن يعيذهم من الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن . والكيس عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
وصلّوا وسلموا رعاكم الله على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)).
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد , وبارك على محمد وعلى محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد , وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداء الدين ، واحم حوزة الدين يا رب العالمين. اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى ، وأعنه على البر والتقوى ، وسدده في أقواله وأعماله ، وألبسه ثوب الصّحة والعافية .
اللهم آت نفوسنا تقواها , زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها , اللهم إنا نسألك الهدى والسداد , اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى , اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا , وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا , وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا , واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير , والموت راحةً لنا من كل شر , اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجله, أوله وآخره , سره وعلنه , اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات , اللهم اغفر ذنوب المذنبين , وتب على التائبين من المسلمين , اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين , اللهم وارحم موتانا وموتى المسلمين , اللهم ووفقنا لما تحب وترضى , وأعنا على البر والتقوى , ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( .