خطبة وصف الإيمان الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

وصف الإيمان
الجمعة 07 ذي القعدة 1431 هـ   الموافق لـ : 15 أكتوبر 2010 م
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

وصف الإيمان

خطبة جمعة بتاريخ / 7-11-1431 هـ

 

الحمد لله الذي هدانا للإيمان ، ومنّ علينا بالإسلام ، وجعلنا من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الأنام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلاّم ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوان الله وجنته دار السلام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه النبلاء الأعلام ، أما بعد :

أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى حق تقواه ، وراقبوه مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه ؛ وتقوى الله جل وعلا: عملٌ بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نور من الله خيفة عذاب الله .

أيها المؤمنون : إن أجلّ النعم وأعظمها ، وأكبر المنن وأفخمها نعمة الإيمان ؛ فالإيمان أجل منة ، وأكبر عطية ، وهو منة الله على من يشاء من عباده قال الله تعالى: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين ﴾ [الحجرات:17] ، ويقول الله تبارك وتعالى : ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحجرات:7-8]  ، ويقول الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور:21] والآيات في هذا المعنى كثيرة .

أيها المؤمنون : والإيمان هو أعظم غاية وأجلّ مطلب وأنبل هدف يسعى لتحقيقه العبد في هذه الحياة ؛ فهو الغاية التي خُلقنا لأجلها وأُوجدنا لتحقيقها ، وفي ضوء تحقيق ذلك أو عدمه تكون السعادة في الدنيا والآخرة أو عدمها؛ فأهل الإيمان هم أهل السعادة ، والناكلون عن الإيمان هم أهل الشقاء قال الله تعالى : ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل:97] ، والخيرات كلها في الدنيا والآخرة ثمرة من ثمار الإيمان ونتيجة من نتائجه .

أيها المؤمنون : حقٌ على كل من أكرمه الله بالإيمان وهداه لهذا الدين أن يعرِف لهذه النعمة قدرها ، وأن يرعى لها مكانتها ، وأن يكون اهتمامه بدينه أعظم من اهتمامه بطعامه وشرابه ولباسه وسائر شؤونه ؛ فإن الإنسان إذا فقَد الطعام والشراب لم يخسر بهذا إلا هذه الحياة ، وإذا فقَد الإيمان خسر الدنيا والآخرة ؛ و ﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج:11].

أيها المؤمنون : والإيمان شجرة مباركة ؛ لها أصل ثابت وفرع قائم وثمار متنوعات يقول الله تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم:24-25] . ألا ما أزكاها - أيها المؤمنون - من شجرة ! وما أجل شأنها ! وما أعظم خيراتها وبركاتها !!

وشجرة الإيمان - أيها المؤمنون - أصلها ثابت في قلب المؤمن بالعقائد الصحيحة والإيمانيـّات القويمة المستمدة من كتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقد جمعها الله في قوله : ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة:177] ، وفي قوله:)آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة:285] وفي قوله جل شأنه : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾  [النساء:136] . فهذه أصول الإيمان وقواعده العظام ؛ فلا قيام لدين ولا انتفاع بطاعة ولا نيل لسعادة إلا إذا كانت أعمال الإنسان وطاعاته قائمة على هذه الأصول العظام والأعمدة المِتان ، وقد جمعها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل عندما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإيمان قال : ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) .

ثم أيها المؤمنون : إن الإيمان له شعب كثيرة ، وأعمال وفيرة ، وطاعات متنوعات روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ)) ، وقد دل هذا الحديث العظيم على أن من الإيمان ما يقوم بالقلب ، ومنه ما يقوم باللسان ، ومنه ما يقوم بالجوارح ؛ فكل ذلكم لابد أن يتحقق فيه الإيمان :

  • فالقلب يؤمن : اعتقاداً وأعمالاً صالحات تكون في قلب المؤمن من حياء وخشية وإنابة وتوكل وحسن اعتماد والتجاء إلى الله .. إلى غير ذلكم من أعمال القلوب .
  • واللسان يؤمن : بذكر الله وتلاوة القرآن وحمده جل وعلا والثناء عليه والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. كل ذلكم من أعمال الإيمان التي تكون في الإنسان .
  •  والجوارح تؤمن : بفعل الطاعات والقيام بالأوامر والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بأنواع الأعمال الزاكيات .

عباد الله : وكما أن الإيمان فعل للطاعة وامتثال للأمر ؛ فإنه في الوقت نفسه تجنب للحرام وبعد عن الآثام ، فكما أن الصلاة إيمان ، والصيام إيمان ، والزكاة إيمان ، والحج إيمان ؛ فإن تجنب المحرمات والبعد عنها طاعة لله إيمان ، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) ، وهذا الحديث من الدلائل الواضحات على أن المعاصي والآثام تُنقص الإيمان وتُضعف الدين ، فالإيمان -أيها المؤمنون- يزيد بطاعة الله جل وعلا وحسن التقرب إليه ، وينقص بفعل المعاصي والآثام .

أيها المؤمنون : والإيمان لابد فيه من ثبات واستقامة ومداومة عليه وعلى أعماله إلى الممات ، ولهذا قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102] ، وفي الحديث أن النبي عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لسفيان ابن عبد الله الثقفي حين سأله عن أمرٍ جامعٍ لا يسأل عنه أحدا غيره قال :(( قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ)) . ألا أيها المؤمنون من عرف قدر الإيمان ومكانته ، وأعماله وشُعبه ، فليحرص جهده على تحقيق الإيمان مستعيناً بالله تبارك وتعالى طالباً مدّه وعونه ، مجاهداً نفسه على ذلك إلى أن يلقى الله وهو عنه راض .

اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين ؛ أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد ن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله :

أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .

ثم اعلموا رعاكم الله : أن هذه الحياة – الحياة الدنيا - مدبرة مرتحلة ، وأن الدار الآخرة مقبلة ، ولكل من الدارين بنون ؛ فلنكن من أبناء الآخرة ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل . والكيِّس - أيها المؤمنون- من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ، واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة .

وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}  [الأحزاب:56] ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا)).

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، و بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.

وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين : أبي بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، وعثمان ذي النورين ، وأبي الحسنين علي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمّر أعداء الدين ، اللهم احمِ حوزة الدين يا رب العالمين .. اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين ، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك وأعنه على طاعتك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .

اللهم آت نفوسنا تقواها .. وزكها أنت خير من زكاها .. أنت وليها ومولاها .. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر .

اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجله أوله وآخره سره وعلنه ، اللهم اغفر لنا ما قدّمنا وما أخّرنا ، وما أسررنا وما أعلنا ، وما أنت أعلم به منا ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت .

اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا ، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت ، نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبرحمتك التي وسعت كل شيء أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا وأغثنا .. اللهم اسقنا وأغثنا .. اللهم اسقنا وأغثنا .. اللهم إنا نسألك غيثاً مُغيثا هنيئاً مريئاً سِحاً طبقاً نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر .. اللهم سقيا رحمة ؛ لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق .. اللهم أغثنا .. اللهم أغثنا .. اللهم أعثنا.. اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وزدنا ولا تنقصنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا .. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

عباد الله اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].