تفريغ الخطبة
الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى( أخرى )
خطبة جمعة بتاريخ / 13-5-1435 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمَّدًا عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلغ الناس شرعه ، ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه ، ولا شرًا إلا حذَّرها منها ؛ فصلوات اللهُ وَسَلامه عَلَيْهِ وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أمَّا بعدُ أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإنَّ في تقوى الله جل وعلا خلَفًا من كل شيء ، وليس من تقوى الله خلَف .
أيها المؤمنون عباد الله : إن خير الوصايا وأعظمها وأجلَّها وأنفعها تقوى الله جل وعلا ؛ فهي وصية الله تبارك وتعالى للأولين والآخرين من العباد كما قال الله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء:131] ، وهي للناس خير زاد كما قال الله تبارك وتعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } [البقرة:197] ، وهي العاقبة الحميدة والنجاة للعباد قال الله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}[طه:132] .
أيها المؤمنون عباد الله : وهي وصية نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام لأمَّته ، ووصية السلف فيما بينهم ؛ فهي عباد الله أعظم الوصايا وأجلُّها على الإطلاق .
معاشر المؤمنين : وتقوى الله جل وعلا حقيقتها : العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابا ، أمرًا ونهيا ؛ وذلك بأن يفعل العبد ما أمره الله تبارك وتعالى إيمانًا بالوعد واحتسابًا في نيل المثوبة عليه ، وإيمانًا بالوعيد وخوفًا من حصول العقوبة عليه ؛ فيجاهد نفسه على فعل الأوامر وترك النواهي إيمانًا بالله واحتسابًا في طلب ثواب الله جل وعلا .
ولما وقعت الفتنة في زمن التابعين قيل لطلق ابن حبيب رحمه الله كيف نتقيها ؟ قال : « اتقوها بالتقوى» ، قالوا : أجمِل لنا التقوى ؟ قال : «تَقْوَى الله تعالى : عَمَلٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ رَجَاءَ ثواب اللَّهِ ، وتَرْكٌ لمَعْصِيَة اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ خِيفَةَ عَذَابَ اللَّهِ » . وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى وبيان حقيقتها . وقد جمع رحمه الله تعالى بين الأمرين : الإيمان والاحتساب ؛ وذلك -عباد الله- أن كل عملٍ يُتقرب به إلى الله تعالى لابد له من مبدأ ولا بد له من غاية ؛ أما المبدأ : فهو الإيمان ، وأما الغاية: فهي نيل الرضوان والمثوبة . وقد جمع بينهما في قوله: «عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ» وهذا هو الإيمان ، و«رَجَاءَ ثواب اللَّهِ» وهذا هو احتساب المثوبة والأجر عند الله تبارك وتعالى .
أيها المؤمنون عباد الله : والتقوى منبعها الذي منها تصدر هو قلب المؤمن عندما يُعمر حقيقةً وصدقًا بتقوى الله تعالى ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن نبينا صلى الله عليه وسلم أشار إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وقال : ((التَّقْوَى هَاهُنَا)) ؛ أي هذا منبعها وهذا مصدرها ، عندما تُعمر القلوب حقًا بتقوى الله جل وعلا وخشيته وخوفه ومراقبته جل في علاه فإنَّ الجوارح كلها تصلح تبعًا للقلب كما قال صلى الله عليه وسلم : ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ)) ، وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام : ((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)) ، وقدَّم القلوب على الأعمال لأنها المنبع والمصدر والأساس في الصلاح أو الفساد .
أيها المؤمنون عباد الله : ولقد جاء في كتاب الله آياتٌ عديدة شارحةً للتقوى مبينةً لحقيقتها مفسرةً لمعناها موضحةً للمراد بها ؛ فجديرٌ بعبد الله المؤمن أن يقف متأملًا في مثل هذه الآيات مجاهدًا نفسه على تحقيق ما دلت عليه ليكون من عباد الله المتقين حقًا وصدقا .
أيها المؤمنون عباد الله : وللتقوى ثمارٌ عديدة وآثارٌ مباركة ينالها عباد الله المتقون في دنياهم وأخراهم ، وهي لا حصر لها ولا عد .
% ومن ثمار التقوى العظيمة عباد الله : أن المتقي يمنُّ الله تبارك وتعالى عليه بالنور والضياء والعلم والبصيرة ، كما قال الله تبارك وتعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}[البقرة:282] ، وقال جل وعلا : { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا }[الأنفال:29] .
% ومن ثمارها عباد الله : تجنُّب المحن والسلامة من الفتن والنجاة في الشدائد والكربات ، قال الله تبارك وتعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق:2-3] .
% ومن ثمارها عباد الله : تيسير الأمور وتسهيلها والراحة والسعادة في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى }[الليل:5-7] ، وقال الله تبارك وتعالى : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}[الطلاق:4] .
% ومن ثمارها عباد الله : نيل الأجور العظيمة وتكفير الخطايا والذنوب ، كما قال الله تبارك وتعالى : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}[الطلاق:5] .
% ومن ثمارها عباد الله : رفعة الدرجات وعلو المنازل ، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[البقرة:212] .
% ومن ثمارها عباد الله : الفوز بالرضوان ودخول الجنات والفوز بنعيمها وثوابها وأجورها ، كما قال الله تبارك وتعالى : {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ:31] ، وقال جل وعلا :{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [القلم:34] ، وقال جل وعلا :{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] .
فعلينا يا معاشر المؤمنين يا عباد الله أن نتقي الله جل وعلا ، وأن نجاهد أنفسنا على تحقيق تقواه ؛ لنفوز بسعادة الدنيا والآخرة ، ولنكون من حزب الله المفلحين وأوليائه المقربين ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة:189] .
جعلنا الله أجمعين من عباده المتقين وأوليائه المقربين ، وأصلح لنا شأننا كله إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل . أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، أحمده حمد الشاكرين ، وأثني عليه ثناء الذاكرين ، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : إنَّ من تقوى الله جل وعلا أن نراقبه جل وعلا في حرمة عباد الله المؤمنين في دماءهم وأموالهم وأعراضهم ،كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام في خطبته العظيمة في حجة الوداع : ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ)) ، فمن أخلَّ بشيء من ذلك نقص من تقواه بحسب ذلك . ولهذا وجب على عبد الله المؤمن ليكون من المتقين حقًا وصدقا أن يتقي هذه الأمور ، وأن يتجنب هذه المحرمات ، وأن يراعي حرمة المؤمنين في دمائهم وأموالهم وأعراضهم .
كتب رجل إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اكتب لي بالعلم كله ، فكتب إليه رضي الله عنه «إن العلم كثير ولكن إن استطعت أن تأتي يوم القيامة خفيف الظهر من دماء المسلمين ، خميص البطن من أموالهم ، كافَّ اللسان عن أعراضهم ، لازمًا لجماعتهم فافعل» ؛ وهي وصية جمعت خيرًا عظيما وفضلًا عميما .
نعم عباد الله من استطاع أن يأتي يوم القيامة ولم يصِب مسلمًا بأذى لا في دمه ولا في ماله ولا في عرضه كان يوم القيامة من المفلحين ، لأن هذه الأمور الثلاثة هي أخطر ما يكون فيما يتعلق بالمحرمات فيما يتعلق بحقوق العباد ، فالواجب علينا عباد الله أن نتقي الله تبارك وتعالى في حقوقه جل في علاه وفي حقوق عباده ، وأن نجاهد أنفسنا على تحقيق رضاه والله يقول: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت:69]
والكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكرٍ الصديق ، وعمر الفاروق ، وعثمان ذي النورين ، وأبي الحسنين علي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصُر من نصَر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينا وحافظًا ومؤيِّدا ، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين .
اللهم يا حي يا قيوم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأصلح لنا شأننا كله لا إله إلا أنت . اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يقربنا إلى حبك يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم أصلح ذات بيننا ، وألِّف بين قلوبنا ، واهدنا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا يا ذا الجلال والإكرام . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر .
ربنا واغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقَّه وجلَّه ، أوَّله وآخره ، علانيته وسرَّه ، اللهم فرج هم المهمومين ، ونفِّس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى والمسلمين ، وارحم موتانا وموتى المسلمين . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].