خطبة التّوفيق الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

التّوفيق
الجمعة 16 أكتوبر 2015    الموافق لـ : 02 محرم 1437
تحميل الخطبة

تفريغ الخطبة

التَّوْفِيق

خطبة جمعة بتاريخ / 2-1-1437 هـ

 

إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده اللهُ فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليلُه ، وأمينُه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعَه ، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه . وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.

أيها المؤمنون عباد الله : سلوا الله تعالى ربكم التوفيق في كل أموركم وجميع مصالحكم وسائر شؤونكم ؛ فإنه جل وعلا بيده الأمر كله ؛ يعطي ويمنع ، يخفض ويرفع ، يقبض ويبسط ، يعز ويذل ، يضحك ويبكي ، كل يوم هو في شأن ، الأمر أمره والخلق خلْقه ، ونواصي العباد بيده ، وهم أجمعين طوع تسخيره وتدبيره ، لا غناء لهم عنه طرفة عين ولا قليلَ نفَس ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر:15] .

معاشر المؤمنين : ما أحوج العبد أن يستشعر هذا المقام ؛ مقام حاجته وافتقاره وضرورته إلى الله بأن يوفقه في كل أموره وجميع أعماله ، وتأملوا في التجاء نبي الله شعيب عليه السلام وهو يدعو قومه إلى الله جل في علاه حيث يقول: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود:88] . فالتوفيق -يا معاشر المؤمنين- بيد الله عز وجل ؛ يوفق من شاء من عباده بفضله ، ويخذل سبحانه وتعالى من شاء منهم بعدله ، الأمر أمره والخلق خلقه .

وتأمل في باب التوفيق قول الله عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }[الحجرات:7-8] ، وقوله جل وعلا: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الحجرات:17] ، وقوله: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}[النساء:49] ، وقوله سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا }[النساء:83] ، وقوله سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ }[النور:21].

وتأمل في باب الخذلان قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ(96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ }[يونس:96-97] ، وقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }[الأنعام:111] ، وقوله سبحانه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}[الحج:18] ، وقوله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ }[النحل:37] ، وقوله سبحانه: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[فاطر:8] .

فيا معاشر المؤمنين : جديرٌ بنا وبكل واحد منَّا أن يتأمل هذا المقام ؛ التوفيق والخذلان ، وأن الأمر بيد الله جل في علاه ، وإذا استحضر هذا المقام من مقامات المعرفة بالله جل وعلا تمام الاستحضار وجاهد نفسه على الأخذ بالأسباب تحققت له سعادته في دنياه وأخراه ؛ وتأمل في هذا المقام وصيةً عظيمة من خير موصٍ عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة رضي الله عنها وعن الصحابة أجمعين ، في السنن الكبرى من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة : ((ما يمنعك أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت : يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ)) ؛ تأمل هذه الوصية ما أعظمها «وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» ، لأن العبد إذا وُكل إلى نفسه وكل إلى خذلان وحرمان ، وقد أجمع العارفون بالله جلَّ في علاه أنَّ التوفيق: أن لا يكِلك الله إلى نفسك ، وأن الخذلان: أن يوكل العبد إلى نفسه ؛ فإذا وُكل العبد إلى نفسه وكل إلى خسران وضياع .

أيها المؤمنون عباد الله : ومما ينبغي أن يعتنى به في هذا المقام معرفة الأمور التي يُستجلب بها التوفيق ؛ وهو باب شريف عظيم للغاية .

v ومن أعظم ما يستجلب به التوفيق - توفيق الله جل وعلا لعبده- النية الصالحة التي هي أساس العمل وقوامه وصلاحه ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) ؛ فيحرص المرء على إطابة نيته وإصلاح مقصده ليطيب منه العمل ويزكو بمنِّ الله وفضله .

v ومما يُستجلب به التوفيق : الدعاء وكثرة الإلحاح على الله ؛ فإن من أُعطي الدعاء فقد أعطي مفتاح التوفيق وبابه ، والله جل وعلا يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة:186] ، والله عز وجل لا يخيِّب من دعاه ولا يرد من ناجاه .

v ومما يُستجلب به التوفيق : صدق التوكل على الله جل وعلا ؛ وقد تقدم في قول شعيب عليه السلام : {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ }[هود:88] ، ومن ذلكم ما جاء في قول الله عز وجل : {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران:160] أي في أمورهم واستجلابهم للنصر والتوفيق ، إذ إنَّ ذلك كله بيد الله عز وجل .

v ومما يُستجلب به التوفيق عباد الله : إصلاح النفس بالعلم ؛ فإن العلم نورٌ لصاحبه وضياء ، فما أُتي من أتي في هذا الباب إلا من إضاعته لعلم الشريعة التي هي أعظم أبواب التوفيق والسعادة في الدنيا والآخرة .

v ومما يُستجلب به التوفيق عباد الله : ملازمة أهل الصلاح والاستقامة ، والبُعد عن أهل الشر والفساد ؛ فإن من فتح على نفسه باب مجالسةٍ لأهل شرٍ وفساد فتح على نفسه من باب الخذلان والحرمان شيئا عظيما بحسب حاله من هذه المجالسة .

v ومن الأمور التي يُستجلب بها التوفيق عباد الله : مجاهدة النفس على العبادة والطاعة فرضها ونفلها ، وتأمل في هذا الباب الحديث القدسي العظيم حيث يقول الله تبارك وتعالى : ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)) .

اللهم إنا نسألك التوفيق لرضاك ، والمعونة على طاعتك ، وأن لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ؛ إنك سميع الدعاء وأنت أهل الرجاء وأنت حسبنا ونعم الوكيل .

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرةً وأصيلا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله جل وعلا خير زادٍ إلى رضوان الله ، وفي تقوى الله جل وعلا خلَفٌ من كل شيء ، وليس من تقوى الله خلَف .

ولنحرص -يا معاشر المؤمنين- ونحن نستقبل يوما فاضلا ألا وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم على صيام ذلك اليوم مع صيام يومٍ قبله ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن فضل صيام يوم عاشوراء : ((أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)) ، وهو صيام يوم شكر لله عز وجل ؛ فهو اليوم الذي أهلك الله فيه فرعون وقومه ، ونجى موسى عليه السلام وقومه ؛ فصامه نبينا صلى الله عليه وسلم شكرًا لله جل وعلا . فلنحرص يا معاشر المؤمنين على هذا الخير وعلى كل خير مستعينين بالله طالبين مدَّه وعونه وتوفيقه جل في علاه .

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين ؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وعن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .

اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعِينا وحافظًا ومؤيِّدا ، اللهم وعليك بأعداء الدِّين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفِّق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .

اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، اللهم وأصلح لنا شأننا كله ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر .

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .