للشيخ عبد الحميد بن باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)
بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعز محمَّد علي فركوس -حفظه الله-
تاسِعًا: وَلاَ يَكْفِي النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَفَهْمُ مَعْنَاهُمَا إِلاَّ مَعَ التَّصْدِيقِ التَّامِّ وَالاِعْتِقَادِ الجَازِمِ بِهِ(١)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ﴾(٢)، وَلِقَوْلِه تَعَالَى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾(٣).
عَاشِرًا: مَنْ حَصَلَ لَهُ اليَقِينُ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَفَاهُ ذَلِكَ اليَقِينُ لِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ(٤) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ أَنَسٌ(٥) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟» فَقُلْنَا(٦): «هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ المُتَّكِئُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: «ابْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟»(٧) فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَجَبْتُكَ»، فَقَالَ: «إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ، فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ»، فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ»، فَقَالَ: «أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟» فَقَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، قَالَ: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ تَعَالَى(٨)، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟» قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، قَالَ: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟» قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، قَالَ: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟» فَقَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، فَقَالَ الرَّجُلُ: «آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ(٩)»»(١٠). رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا(١١).
الحَادِي عَشَرَ: يَجِبُ عَلَى المُؤْمِنِ مَعَ تَصْدِيقِهِ وَجَزْمِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي آيَاتِ اللهِ وَيَسْتَعْمِلَ عَقْلَهُ لِلْفَهْمِ(١٢) كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الوَاجِبَاتِ فِي الإِسْلاَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(١٣)، ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾(١٤)، ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾(١٥)، ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾(١٦)(١٧).
(١) فأصل الشهادة أنه يواطئ اللسان القلبَ، هذا بالنطق وذلك بالاعتقاد الجازم، فلا بدَّ من التلازم بين الظاهر والباطن، فالظاهر دليلٌ على إيمان القلب ثبوتًا وانتفاءً، وهو عنوان الباطن، وقد أفصح عن هذا المعنى شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في مَعْرِض بيان أنَّ الصراط المستقيم هو أمورٌ باطنةٌ في القلب: من اعتقاداتٍ وإراداتٍ وغيرها، وأمورٌ ظاهرةٌ: من أقوالٍ أو أفعالٍ: عباداتٍ كانت أو عاداتٍ، حيث قال -رحمه الله- في «الاقتضاء» (١/ ٩٢): «وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباطٌ ومناسبةٌ، فإنَّ ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرةً، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالاً».
وقد ساير هذا المعنى أبو إسحاق الشاطبيُّ عند بيانه أنَّ المسبَّبات في العادة تجري على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج، حيث قال -رحمه الله- في «الموافقات» (١/ ٢٣٣): «فمن التفت إلى المسبَّبات من حيث كانت علامةً على الأسباب في الصحَّة أو الفساد لا من جهةٍ أخرى؛ فقد حصل على قانونٍ عظيمٍ يضبط به جريانَ الأسباب على وزان ما شُرع أو على خلاف ذلك، ومن هنا جُعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرمًا حُكم على الباطن بذلك، أو مستقيمًا حُكم على الباطن بذلك أيضًا، وهو أصلٌ عامٌّ في الفقه وسائر الأحكام العاديَّات والتجريبيَّات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافعٌ في جملة الشريعة جدًّا».
هذا وقد استدلَّ المصنِّف على ذلك بما أكذب اللهُ تعالى المنافقين وفضحهم بقوله: ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١]، لأنه لم تواطئ قلوبهم ألسنتَهم على تصديق رسول الله، واعتقادهم أنه غير رسولٍ، فهم كاذبون عند الله وعند من عرف حالهم، أو كاذبون عند أنفسهم، ذلك لأنَّ «الشهادة أخصُّ من الخبر، ولأنهم ضمَّنوا شهادتَهم التأكيدَ المشعر بالقسم والموحيَ بمطابقة القول لِما في القلب ولا سيَّما في هذا المقام وهو مقام الإيمان والتصديق، فأكذبهم الله في كون إخبارهم بصورة الشهادة، والحالُ أنهم لم يأتوا بالشهادة على وجهها: وهو عدمُ مطابَقتها لاعتقادهم» [تتمَّة «الأضواء» لعطيَّة محمَّد سالم (٤/ ٣٢١)].
قلت: وحال المنافق الذي يُظهر الإسلامَ ويُبطن الكفرَ أنه تجري عليه أحكامُ الإسلام باعتبار ظاهره الذي أقرَّ به في أحكام الدنيا، أمَّا الحكم الأخرويُّ فهو معدودٌ من الكافرين. [انظر: «الأمَّ» للشافعي (١/ ٢٩٥، ٢٦٠، ٦/ ١٥٧، ١٦٥)، و«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٧/ ٦٢٠، ٦٢١)].
(٢) جزءٌ من الآية ١٩ من سورة محمَّد.
هذا، والعلم المطلوب يلزم معه إقرارُ القلب ومعرفتُه والعملُ بمقتضاه، والمراد بالعلم في الآية هو علمُ التوحيد، معرفته لازمةٌ عينًا على كلِّ فردٍ لا يسقط عن أحدٍ كائنًا من كان، بل الكلُّ مضطرٌّ إليه، ومسالك العلم بأنه: «لا إله إلاَّ الله» وطُرُقُه الموصِلة إليه تعرَّض إليها المصنِّف -كما سيأتي-، والعلم مطلوبٌ قبل القول والعمل، وقد بوَّب له البخاريُّ بذلك مستدلاًّ بالآية، قال ابن المنير: «أراد به أنَّ العلم شرطٌ في صحَّة القول والعمل، فلا يُعتبران إلاَّ به، فهو متقدِّمٌ عليهما، لأنه مصحِّحٌ للنيَّة المصحِّحة للعمل، فنبَّه المصنِّف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: «إنَّ العلم لا ينفع إلاَّ بالعمل» تهوينُ أمر العلم والتساهلُ في طلبه». [«فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٦٠)].
(٣) الآية ١ من سورة المنافقون.
والآية تضمَّنت أَمْرَ المنافق من اختلافٍ بين ظاهره وباطنه، إذ ما يستقرُّ في القلب لا بدَّ من ظهور موجَبه في القول والعمل كما قال بعض السلف: «ما أسرَّ أحدٌ سريرةً إلاَّ أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه»، وقد قال تعالى -في المنافقين-: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمَّد: ٣٠]، قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (٧/ ٦٢٠): «وأساس النفاق الذي بُني عليه أنَّ المنافق لا بدَّ أن تختلف سريرتُه وعلانيته وظاهره وباطنه، ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: ١٠]، وقال: ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١]، وأمثال هذا كثيرٌ، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥]، وقال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٧]».
(٤) هو ضمام بن ثعلبة مِن بني سعد بن بكرٍ، قدم وافدًا على قومه سنة تسعٍ من الهجرة، وسأل النبيَّ صلَّى الله وعليه وآله وسلَّم عن شرائع الإسلام فأسلم ثمَّ رجع إلى قومه وأظهر إسلامَه، فما أمسى ذلك اليومَ في حاضره رجلٌ مشركٌ ولا امرأةٌ مشركةٌ، فما سُمع بوافدٍ قدم أفضلَ من ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه.
انظر ترجمته في: «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٢/ ٧٥١)، «أسد الغابة» (٣/ ٤٢) و«الكامل في التاريخ» (٢/ ٢٩٠) كلاهما لابن الأثير، «البداية والنهاية» لابن كثير (٥/ ٦٠)، «الإصابة» لابن حجر (٢/ ٢١٠).
(٥) هو الصحابيُّ أبو حمزة أنس بن مالك بن النضر الأنصاريُّ الخزرجيُّ النجَّاريُّ المدنيُّ ثمَّ البصريُّ، خادم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأحد المكثرين من الرواية عنه، كان عالِمًا مقرئًا محدِّثًا، له فضائل، وكان آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم سنة ٩٣ﻫ.
انظر ترجمته في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٧/ ١٧)، «المعارف» لابن قتيبة (٣٠٨)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٢/ ٢٨٦)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (١/ ١٠٩)، «البداية والنهاية» لابن كثير (٩/ ٨٨)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (٣/ ٣٩٥)، «الإصابة» لابن حجر (١/ ٧١)، «الرياض المستطابة» للعامري (٣٣).
(٦) عند البخاري (١/ ١٤٨): «وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ».
(٧) فيه نسبة الشخص إلى جدِّه إذا كان أشهرَ من أبيه، ومنه قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يوم حنينٍ:
أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ * أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
[«فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٥٣)].
(٨) في قوله: «أنشدك بالله» دليلٌ على جواز القراءة والعَرْض على المحدِّث، ثمَّ الرواية عنه كما سمع منه، وهو قول جماعةٍ من أئمَّة الحديث وأهل العلم. [«شرح السنَّة» للبغوي (١/ ١٤)].
ولفظ «تعالى» في المواضع الثلاثة من نصِّ المصنِّف مزيدةٌ لا توجد في الروايات المخرَّجة.
(٩) هم بنو سعد بن بكر بن هوازن ومنهم: حليمة السعدية ظئرُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم التي أرضعته وأولادَها: عبد الله، وأنيسة، والشَّيماء إخوة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الرضاعة، وقد جاءت الشَّيماء يوم حنينٍ فطرح لها ناحيةَ ردائه، وأعتق لها سبيَ قومها أجمعين. [انظر: «الاشتقاق» لابن دريد (٢٩١)، «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم (٢٦٥)، «نهاية الأرب» للقلقشدي (٢٦٨)].
(١٠) وفي الحديث جملةٌ من الفوائد والأحكام ذكرها النوويُّ وابن حجرٍ، أمَّا ما يتَّصل بهذا الموضوع فقال النوويُّ في «شرح مسلم» (١/ ١٧١): «وفيه -أي: هذا الحديث- دلالةٌ لصحَّة ما ذهب إليه أئمَّة العلماء من أنَّ العوامَّ المقلِّدين مؤمنون وأنه يكتفى منهم بمجرَّد اعتقاد الحقِّ جزمًا من غير شكٍّ وتزلزلٍ، خلافًا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك أنه صلَّى الله عليه وسلَّم قرَّر ضمامًا على ما اعتمد عليه في تعرُّف رسالته وصدقه ومجرَّد إخباره إيَّاه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك ولا قال: يجب عليك معرفة ذلك بالنظر في معجزاتي والاستدلال بالأدلَّة القطعية». قلت: وقد مضى بيانه مفصَّلاً في القاعدة السادسة.
(١١) أخرجه البخاري في «العلم» (١/ ١٤٨) باب ما جاء في العلم وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، ومسلم في «الإيمان» (١/ ١٦٩) باب السؤال عن أركان الإسلام، وأبو داود في «الصلاة» (١/ ٣٢٦) باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد، والبغوي في «شرح السنَّة» (١/ ١٢) من كتاب «الإيمان» من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.
(١٢) والمصنِّف أراد بوجوب النظر -بعد تحصيل الإيمان والتصديق والاعتقاد الجازم- ذلك النظرَ المفيد للعلم المبنيَّ على دليلٍ ينفع ويحصل به الهدى وهو قائمٌ على التفكُّر والاعتقاد والاستحضار، وهي ضروبُ ذكرِ القلب:
- فالقرآن الكريم يأمر بالتدبُّر في عظمة الله وجلاله، وفي جبروته وملكوته، وفي خلقه وتدبيره، والتفكير في آياته في أرضه وسماواته وجميع مخلوقاته، ويُرشد إلى التأمُّل في أنواع آلائه وعظيم نعمائه على خلقه عامَّةً وعلى الإنسان خاصَّةً بما سخَّر له منها وما يسَّر له من أسباب الانتفاع بها والاعتبار لِما يعطيه من الثواب لأوليائه المؤمنين من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به التي تدلُّ على التوحيد أعظمَ دلالةٍ، والتي تبيِّن وحدانيتَه في الربوبية وانفرادَه بالألوهية أتمَّ بيانٍ، وهذا الضرب هو أعظمُ الأذكار وأجلُّها وأولاها وأحسنها، لأنَّ العقيدة لا تثبت إلاَّ بهذا التفكير، وبه يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد، ويحصل للناظر طمأنينة اليقين بحيث يكون كالجبال الراسيات لا تزلزله الشبه والخيالات، بل لا يزداد -على تكرُّر الباطل والشبه- إلاَّ نموًّا وكمالاً، قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨].
- أمَّا الاعتقاد فهو متفرِّعٌ عن التفكير والاعتبار: وهو الاعتقاد الجازم بالإيمان بالله وملائكته وكُتُبه ورسله واليوم الآخر والقدر كلِّه بالفهم والإدراك الصحيح، فهو اعتقادٌ يرسخ في النفوس وينطبع في العقول.
- وأمَّا استحضار عظمة الله وقدرته وفضله ووعده ووعيده وما ينبغي فعلُه استحقاقًا له فيما أُذن فيه بقلبٍ خالصٍ لوجهه الكريم فهو أساس التقوى وسرُّ الخشية، ولا يستمرُّ دوامُه إلاَّ إذا كان قائمًا على عقيدةٍ راسخةٍ متولِّدةٍ عن اطمئنان القلب ويقينه، لذلك كان الاستحضار متوقِّفًا على الاعتقاد الجازم وعلى التأمُّل والتفكير الذي هو طريق العلم الذي يوجب بَذْلَ الجهد في التألُّه له والتعبُّد للربِّ الكامل الذي له كلُّ حمدٍ ومجدٍ وجلالٍ وجمالٍ. فالعلم لا بدَّ فيه من إقرار القلب ومعرفته، وتحصيل مقتضاه قولاً وعملاً.
(١٣) جزءٌ من الآية ١٠١ من سورة «يونس».
ومعنى الآية: أنَّ الله يرشد عبادَه بالتفكُّر في آلائه، والاعتبار فيما خلق في السماوات والأرض والتأمُّل لِما فيها من الآيات الباهرة لذوي الألباب، الدالَّة على عظيم خالقها وكماله، وأنه المستحقُّ للعبودية وحده لا شريك له، وقد أشار لمثل ذلك في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصِّلت: ٥٣]، وقد توعَّد سبحانه وتعالى من لم يمتثل لهذا الأمر بأنه قد يفاجئه الموت ويقترب أجلُه قبل النظر فيما أمر اللهُ أن ينظر فيه وهو في غفلةٍ معرضٌ فلا يتمكَّن من استدراك الفارط، ففيه تنبيهٌ على وجوب المبادرة إلى الامتثال لأمر الله، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٨٥].
والظاهر أنَّ هذه وغيرها التي استدلَّ بها المصنِّف على وجوب النظر والاستدلال إنما يُحتجُّ بها على الوجوب لمن طرأ على فطرته ما يُفسدها أو يعكِّر صفوَها، أمَّا غيره فالمعرفة حاصلةٌ له بأصل الفطرة، لكن يُستحبُّ له النظر ويُرغَّب فيه تثبيتًا للأصل وتفاديًا لأيِّ طارئٍ مفسدٍ على الفطرة أو معكِّرٍ لها.
(١٤) الآية ٥ من سورة «الطارق».
(١٥) الآية ٢٤ من سورة «عبس».
(١٦) الآيات ١٧، ١٨، ١٩، ٢٠ من سورة «الغاشية».
(١٧) اقتصر المصنِّف في استدلاله بالآيات على وجوب النظر بنوعِ طريقِ علمٍ واحدٍ الموصلِ إلى توحيد الله سبحانه، المتمثِّل فيما أقامه الله من الأدلَّة الأفقية والنفسية التي تدلُّ على التوحيد أعظمَ دلالةٍ، وتشهد بلسان حالها على لطف صنعته وبديعِ حكمته وغرائب خلقِه.
غير أنه توجد أنواعُ طرقِ علمٍ أخرى ترشد لتوحيده عزَّ وجلَّ، وأعظمها: تدبُّر أسمائه وصفاته وأفعاله الدالَّة على كماله وعظمته وجلاله فإنها توجب تعلُّق القلب به ومحبَّته والتألُّه له وحده لا شريك له -كما تقدَّم بيانُه-. [انظر «تفسير السعدي» (٨٦٤)].
... يتبع ...
الجزائر في: ١٢ ذو القعدة ١٤٢٧ﻫ
المـوافق ﻟ: ٠٣ ديسمبر ٢٠٠٦م