مقال العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية: الإيمان بالملائكة عليهم السلام الشيخ عبد الحميد بن محمد ابن باديس

العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية: الإيمان بالملائكة عليهم السلام
الأحد 11 سبتمبر 2016    الموافق لـ : 08 ذي الحجة 1437

«التصفيف الثاني والأربعون: الإيمان بالملائكة عليهم السلام(١)»

الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: [بيان حقيقة الملائكة وصفاتهم وأعمالهم]:

المَلَائِكَةُ مَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ(٢)، لَا يُوصَفُونَ بِذُكُورَةٍ وَلَا بِأُنُوثَةٍ(٣)، مُيَسَّرُونَ لِلطَّاعَاتِ، مَعْصُومُونَ مِنَ المَعَاصِي، مُسَخَّرُونَ بِإِذْنِ اللهِ فِي شُؤُونِ الخَلْقِ وَتَدْبِيرِ الكَوْنِ، وَحِفْظِ العِبَادِ وَكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ، أُمَنَاءُ عَلَى الوَحْيِ فِي حِفْظِهِ وَتَبْلِيغِهِ(٥)؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا(٦) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقَتِ المَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ(٧)، وَلِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى ـ: ﴿وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡ‍َٔلُونَ ١٩﴾ [الزخرف](٨)، ﴿وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ ١٩ يُسَبِّحُونَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفۡتُرُونَ ٢٠﴾ [الأنبياء]، ﴿وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّآفُّونَ ١٦٥ وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ ١٦٦﴾ [الصافَّات](٩)، ﴿لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ ٢٧ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ ٢٨﴾ [الأنبياء]، ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ۩ ٥٠﴾ [النحل](١٠)، ﴿فَٱلۡمُقَسِّمَٰتِ أَمۡرًا ٤﴾ [الذاريات: ٤]، ﴿فَٱلۡمُدَبِّرَٰتِ أَمۡرٗا ٥﴾ [النازعات]، ﴿إِن كُلُّ نَفۡسٖ لَّمَّا عَلَيۡهَا حَافِظٞ ٤﴾ [الطارق]، ﴿لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ﴾ [الرعد: ١١]، ﴿وَإِنَّ عَلَيۡكُمۡ لَحَٰفِظِينَ ١٠ كِرَامٗا كَٰتِبِينَ ١١ يَعۡلَمُونَ مَا تَفۡعَلُونَ ١٢﴾ [الانفطار]، ﴿عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٞ ١٧ مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ ١٨﴾ [ق]، ﴿فِي صُحُفٖ مُّكَرَّمَةٖ ١٣ مَّرۡفُوعَةٖ مُّطَهَّرَةِۢ ١٤ بِأَيۡدِي سَفَرَةٖ ١٥ كِرَامِۢ بَرَرَةٖ ١٦﴾ [عَبَسَ]، ﴿إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ ٧٧ فِي كِتَٰبٖ مَّكۡنُونٖ ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ ٧٩﴾ [الواقعة]، ﴿فَٱلۡمُلۡقِيَٰتِ ذِكۡرًا ٥ عُذۡرًا أَوۡ نُذۡرًا ٦﴾ [المُرْسَلات]، ﴿ٱللَّهُ يَصۡطَفِي مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلٗا وَمِنَ ٱلنَّاسِ﴾ [الحج: ٧٥](١١).

 


(١) في نسخة: «م.ف»: «عليهم الصلاة والسلام».

الملائكة: جَمْعُ مَلَكٍ، وقد اخْتُلِفَ في أصلِ اشتقاقِ تسميتهم، وما عليه عامَّةُ أهلِ اللغةِ والتفسيرِ أنَّ اشتقاقَ اسْمِ «الملائكة» مِنَ «الألوكة» وهي الرسالة، وهذا القولُ أَقْرَبُ مِن جهةِ اللغةِ وأَصْوَبُ مِن جهةِ المعنى، وقد سمَّى اللهُ ـ تعالى ـ ملائكتَه بالرُّسُل في آياتٍ كثيرةٍ منها: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ ٧٧﴾ [هود]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿قَالَ فَمَا خَطۡبُكُمۡ أَيُّهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ﴾ [الحِجْر: ٥٧؛ الذاريات: ٣١]، وزِيدَتِ الهاءُ في الملائكةِ إمَّا تأكيدًا لتأنيثِ الجمع، ومثلُه الصَّلادِمَة، والصَّلادِمُ: الخيلُ الشِّدَادُ، ووَاحِدُها: صِلْدِمٌ، وإمَّا للمُبالَغةِ مثل: علَّامةٍ ونسَّابةٍ، [انظر: «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (١٢٢٩)، «لسان العرب» لابن منظور (١٣/ ١٨٥)، «تفسير القرطبي» (١/ ٢٦٢)، «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٣٠٦)].

والإيمان بالملائكةِ عليهم السلامُ هو الركنُ الثاني مِنْ أركانِ الإيمانِ الستَّةِ التي لا يصحُّ إيمانُ عبدٍ ولا يُقْبَل منه إلَّا بتحقيقه، وقَدْ جاء هذا الأصلُ مرتَّبًا بعد الإيمان بالله ـ تعالى ـ في قوله ـ تعالى ـ: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦ﴾ [البقرة: ٢٨٥]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا سأله جبريلُ عليه السلام عن الإيمان: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» [سبق تخريجه].

ولعلَّ الحكمةَ مِنْ تقديمِ المصنِّفِ الإيمانَ بالقَدَرِ على هذا الأصلِ تكمن في أنَّ الإيمان بالقَدَرِ داخلٌ في الإيمانِ بالله ـ سبحانه ـ وهو مِنْ جملةِ ما استأثر اللهُ بعِلْمِه؛ فناسَبَ تقديمَه على فصلِ الإيمان بالملائكة.

هذا، وقد دلَّ الكتابُ والسنَّةُ وإجماعُ المسلمين على وجوب الإيمان بالملائكة إجمالًا، وهو فرضُ عينٍ يجب تعلُّمُه واعتقادُه.

والإيمانُ المُجْمَلُ بالملائكةِ يتضمَّن المعانيَ التالية:

١ ـ الإقرارَ بوجودهم على وجهِ الحقيقة لا المجاز؛ فالإيمانُ بهم ولو لم نُشاهِدْهم هو مِنَ الإيمان بالغيب، وقد رأى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعضَ الملائكةِ على صورته الحقيقية، ورآهم الأنبياءُ والصحابةُ والصالحون وهُمْ مُتشكِّلون بصورة البشر ـ كما سيأتي ـ [انظر: (ص )].

٢ ـ إنزالَهُم مَنازِلَهُم التي أَنْزَلَهُم اللهُ، وإثباتَ أنهم ـ كسائِرِ خَلْقِه مِنَ الإنس والجنِّ ـ عِبادُ الله، مأمورون ومُكلَّفون، وأنَّ الله أَكْرَمَهم ورَفَعَ مَقامَهم عنده، وفضَّلَ بعضَهم على بعضٍ، وهُمْ رُسُلُ اللهِ إلى خَلْقِه بما يَشاءُ مِنْ وحيٍ أو غيرِه، وهُمْ لا يَقْدِرون إلَّا على ما يُقْدِرُهم اللهُ ـ تعالى ـ عليه، والموتُ جائزٌ عليهم، ولكنَّ الله جَعَلَ لهم أمَدًا بعيدًا فلا يتوفَّاهم حتَّى يبلغوه، كما أنهم لا يملكون لأَنْفُسهم ولا لغيرهم شيئًا مِنْ دونِ الله؛ لذلك فلا يجوز أَنْ يُصْرَف لهم شيءٌ مِنْ أنواعِ العبادة، ولا أَنْ يُوصَفُوا بشيءٍ مِنْ صفات الربوبية ـ كما تَدَّعِيهِ النصارى وتزعمه ـ.

٣ ـ الإقرار بما يَثْبُتُ في حقِّهم في الكتاب والسنَّة؛ فما ثَبَتَ مُجْمَلًا وَجَبَ الإيمانُ به إجمالًا، وما ثَبَتَ في حَقِّهم مفصَّلًا وَجَبَ الإيمانُ به تفصيلًا؛ فلا يُوصَفون إلَّا بما وَصَفَهم به اللهُ، ولا يُسَمَّوْنَ إلَّا بما سمَّاهم به خالِقُهم ـ سبحانه ـ في كتابه أو سنَّةِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم كجبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، ومالكٍ، والمُنْكَر والنكير وغيرِهم؛ بل يجب الإيمانُ بما وَصَفَهم اللهُ به وسَمَّاهم، دون ما لم يُسَمِّ لنا: كتسميةِ مَلَكِ الموتِ عزرائيلَ ـ مثلًا ـ فلا أَصْلَ له في السنَّةِ الصحيحة، قال ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في [«البداية والنهاية» (١/ ٤٧)]: «وأمَّا مَلَكُ الموتِ فليس بمُصَرَّحٍ باسْمِه في القرآنِ ولا في الأحاديث الصحاح، وقد جاء تسميتُه في بعضِ الآثار بعزرائيل»؛ لذلك لا ينبغي تسميةُ مَلَكِ الموتِ بهذا الاسْمِ لعدَمِ ثبوته، [انظر متضمَّناتِ الإيمان بالملائكة في: «شُعَب الإيمان» للبيهقي (١/ ٢٩٦)، «إغاثة اللهفان» لابن القيِّم (٢/ ١٢٥)، «الحبائك في أخبار الملائك» للسيوطي (٩)].

فهذا الإيمانُ بالملائكة إجمالًا، وكُلَّما عَلِمَ العبدُ بتفاصيلِ ما يتعلَّق بهذا الأصلِ أو بغيره لَزِمَه مِنَ الإيمانِ بحَسَبِ ما حَصَّلَ مِنَ التفاصيل، وازدادَ إيمانُه بقَدْرِ ما بَلَغه منها.

ونصوصُ القرآنِ والسنَّةِ مملوءةٌ بذِكْرِ الملائكةِ ومَراتِبِهم وأصنافهم وأخبارِهم وأحوالهم مع الله ـ تعالى ـ ومع الناسِ، وبيانِ أعمالهم المُخْتلِفة، سواءٌ تَعَلَّقَتْ بالكون أو بالإنسان ـ كما سيأتي [انظر: (ص )] ـ إجمالًا وتفصيلًا. ولبيانِ عِظَمِ منزلتهم قَرَنَ اللهُ شهادتَهم بشهادته في قوله ـ تعالى ـ: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ﴾ [آل عمران: ١٨]، كما جَعَلَ اللهُ ـ سبحانه ـ البِرَّ لا يُنالُ إلَّا بالإيمان بهم مقرونًا بأمورٍ أخرى وَرَدَ ذِكْرُها في قوله ـ تعالى ـ: ﴿لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ﴾ [البقرة: ١٧٧].

وعليه، فمَنْ أَنْكَرَ وجودَ الملائكةِ أصلًا أو تَأوَّلَ الملائكةَ بأَخْيِلَةِ القوى العقليةِ والنفسيةِ بمعنَى: أَنْ لا وجودَ لأعيانهم في الخارج، وإنما هي في الأذهانِ؛ فهو مُكذِّبٌ لله ولرسوله، وقد حَكَمَ اللهُ بكفرِ مَنْ أَنْكَرَ وجودَهم وجَعَلَ الكفرَ بهم كفرًا به، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ١٣٦﴾ [النساء].

(٢) جاء في حديثِ عائشة رضي الله عنها الآتي التصريحُ بأنَّ الله خَلَقَ الملائكةَ مِنْ نورٍ، وهذا النورُ ـ في حَدِّ ذاته ـ مخلوقٌ كما ثَبَتَ في «صحيح مسلم» (١٧/ ١٣٣) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: «خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ العَصْرِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فِي آخِرِ الخَلْقِ، فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ».

فخَلَقَ اللهُ ـ تعالى ـ مادَّةَ النور ـ أوَّلًا ـ ثمَّ خَلَقَ منها الملائكةَ، كما خَلَقَ اللهُ ـ تعالى ـ مادَّةَ النارِ ثمَّ خَلَقَ الجنَّ منها، وخَلَقَ اللهُ مادَّةَ الطينِ ـ أيضًا ـ ثمَّ خَلَقَ منها آدَمَ عليه السلام.

وإذا كانَتِ النصوصُ الشرعيةُ فصَّلَتْ في مادَّةِ خَلْقِ الجنِّ والإنسِ كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ ١٤ وَخَلَقَ ٱلۡجَآنَّ مِن مَّارِجٖ مِّن نَّارٖ ١٥﴾ [الرحمن]، وقولِه ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ ٢٦ وَٱلۡجَآنَّ خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ ٢٧﴾ [الحِجْر]، وغيرِها مِنَ الآياتِ المُفَصِّلةِ ـ خاصَّةً في خَلْقِ آدَمَ ومادَّةِ خَلْقِه وزَمَنِ خَلْقِه ـ فإنَّ النصوصَ الحديثية اكتفَتْ بذِكْرِ النور المخلوقِ: مادَّةِ خَلْقِ الملائكة.

وما وَرَدَ مِنْ رواياتٍ تحدَّثَتْ بنوعٍ مِنَ التفصيل عن مادَّةِ خَلْقِ الملائكةِ فهي غيرُ ثابتةٍ، ولا يجوز اعتقادُها ولا الاحتجاجُ بها، فمِنْ ذلك: ما رُوِيَ عن عبد الله بنِ عمرِو بنِ العاص رضي الله عنهما قال: «خَلَقَ اللهُ الملائكةَ مِنْ نورِ الذراعين والصدر»، وما رُوِيَ عن عِكْرِمةَ قال: «خُلِقَتِ الملائكةُ مِنْ نورِ العِزَّة، وخُلِقَ إبليسُ مِنْ نار العِزَّة»؛ فهاتان الروايتان وغيرُهما ضعيفةٌ لا تقوى على الاحتجاجِ والعملِ بها، قال الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ في [«السلسلة الصحيحة» (١/ ٢/ ١٩٧) رقم: (٤٥٩)]: «هذا كُلُّه مِنَ الإسرائيليات التي لا يجوز الأخذُ بها؛ لأنها لم تَرِدْ عن الصادقِ المصدوقِ صلَّى الله عليه وسلَّم».

أمَّا مِنْ حيث زمنُ خَلْقِ الملائكةِ فالثابتُ ـ قطعًا ـ في القرآنِ الكريم أنَّ الملائكة خُلِقوا قبل آدَمَ عليه السلام؛ فقَدْ أَخْبَرَ اللهُ ـ تعالى ـ أنه أَعْلَمَ ملائكتَه بأنه سيجعلُ خليفةً في الأرض، وهو آدَمُ عليه السلام، ثمَّ أَمَرَهم بعد خَلْقِه أَنْ يسجدوا له في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗ﴾ [البقرة: ٣٠]، ثمَّ قال: ﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ﴾ [البقرة: ٣٤]. وهذه الآيةُ وغيرُها وإِنْ دلَّتْ على تَقَدُّمِ خَلْقِ الملائكةِ على خَلْقِ آدَمَ عليه السلام، لكِنْ لم تُبَيِّنْ ـ بالتحديد ـ زَمَنَ خَلْقِهم؛ فكان ذلك غيبًا، والواجبُ الإيمانُ بكُلِّ ما ثَبَتَ بالنصوص الصحيحةِ والوقوفُ عند مدلولها مِنْ غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ، وعدَمُ التكلُّف والتنقيرِ فيما لا دليلَ عليه مِنَ الكتاب والسنَّة.

(٣) في نسخة: «م.ف»: «لا يُوصَفون بالذكورة ولا بالأنوثة» بالتعريف.

(٤) بَدَأَ المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ بذِكْرِ بعضِ الصفات الخَلْقية للملائكة: فهُمْ عبادُ الرحمنِ، جنسٌ مُسْتقِلٌّ لا يُوصَفُ بذكورةٍ ولا أنوثةٍ، وهُمْ باقون على أصلِ خِلْقَتِهم، يخلق اللهُ كُلَّ واحدٍ منهم بذاته فلا يَتزاوجون ولا يَتناسلون، وقد أَنْكَرَ اللهُ ـ تعالى ـ على المشركين أَشَدَّ الإنكارِ زَعْمَهم أنَّ الملائكة إناثٌ وأنهم بناتُ الله، وعِبَادتَهم لهم مِنْ دونِ الله ـ تعالى ـ فقال: ﴿فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ ١٤٩ أَمۡ خَلَقۡنَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ إِنَٰثٗا وَهُمۡ شَٰهِدُونَ ١٥٠ أَلَآ إِنَّهُم مِّنۡ إِفۡكِهِمۡ لَيَقُولُونَ ١٥١ وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ ١٥٢ أَصۡطَفَى ٱلۡبَنَاتِ عَلَى ٱلۡبَنِينَ ١٥٣ مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ ١٥٤﴾ [الصافَّات]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَجَعَلُواْ لَهُۥ مِنۡ عِبَادِهِۦ جُزۡءًاۚ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَكَفُورٞ مُّبِينٌ ١٥ أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخۡلُقُ بَنَاتٖ وَأَصۡفَىٰكُم بِٱلۡبَنِينَ ١٦ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحۡمَٰنِ مَثَلٗا ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٌ ١٧ أَوَ مَن يُنَشَّؤُاْ فِي ٱلۡحِلۡيَةِ وَهُوَ فِي ٱلۡخِصَامِ غَيۡرُ مُبِينٖ ١٨ وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡ‍َٔلُونَ ١٩ وَقَالُواْ لَوۡ شَآءَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدۡنَٰهُمۗ مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ ٢٠﴾ [الزخرف: ١٥ ـ ٢٠]. قال القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (١٦/ ٧٢)] عند هذه الآيةِ: «والمقصودُ: إيضاحُ كَذِبِهم وبيانُ جَهْلِهم في نسبةِ الأولاد إلى الله ـ سبحانه ـ ثمَّ في تَحَكُّمِهم بأنَّ الملائكةَ إناثٌ وهُمْ بناتُ الله، وذِكْرُ العبادِ مَدْحٌ لهم، أي: كيف عَبَدوا مَنْ هو في نهايةِ العبادة؟ ثمَّ كيف حَكَموا بأنهم إناثٌ مِنْ غيرِ دليلٍ؟».

وفضلًا عن هذه الصفةِ الخَلْقية التي ذَكَرَها المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ فإنه يمكن إضافةُ صفاتٍ خَلْقيةٍ أخرى للملائكة ـ باختصارٍ ـ إتمامًا للفائدة، وتظهر فيما يلي:

أوَّلًا: ضخامة خِلْقَةِ الملائكة وعِظَمُ أجسامهم وقوَّتِهم:

لم يخلقِ اللهُ ـ تعالى ـ الملائكةَ على درجةٍ واحدةٍ في الخَلْق والمقدار، ولكِنْ خَلَقَهم على صُوَرٍ عظيمةٍ مُناسِبةٍ لأعمالهم الموكولةِ إليهم، وقد وَصَفَ اللهُ ـ تعالى ـ ملائكةَ النارِ بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ٦﴾ [التحريم]، وقال ـ تعالى ـ في شأنِ جبريلَ عليه السلام: ﴿عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ ٥ ذُو مِرَّةٖ فَٱسۡتَوَىٰ ٦﴾ [النجم]، وقال: ﴿إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ ١٩ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ مَكِينٖ ٢٠﴾ [التكوير]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم واصفًا له: «رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ» [أخرجه مسلمٌ في «الإيمان» (٣/ ٨) بابُ معنَى قولِ الله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ ١٣﴾ [النجم]، والترمذيُّ في «تفسير القرآن» (٥/ ٢٦٢) باب: ومِنْ سورة الأنعام، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها].

ـ وقال صلَّى الله عليه وسلَّم في وَصْفِ حَمَلةِ العرش: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ» [أخرجه أبو داود في «السنَّة» (٥/ ٩٦) بابٌ في الجهمية، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٧٢) برقم: (١٥١)].

ـ وممَّا يدلُّ على قوَّتِهم ـ أيضًا ـ: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ ٨٢﴾ [هود]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿قَالَ فَمَا خَطۡبُكُمۡ أَيُّهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٣١ قَالُوٓاْ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمٖ مُّجۡرِمِينَ ٣٢ لِنُرۡسِلَ عَلَيۡهِمۡ حِجَارَةٗ مِّن طِينٖ ٣٣ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلۡمُسۡرِفِينَ ٣٤﴾ [الذاريات].

ـ ومِنْ ذلك: عِظَمُ قوَّةِ مَلَكِ الجبال الذي قال للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَنَا مَلَكُ الجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ» [وهما جبلان بمكَّةَ يحيطان بها]، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» [أخرجه البخاريُّ في «بدء الخَلْق» (٦/ ٣١٢) باب: إذا قال أحَدُكم: «آمين»، ومسلمٌ في «الجهاد والسِّيَر» (١٢/ ١٥٤) بابُ ما لَقِيَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ أَذَى المُشْرِكين والمُنافِقين، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها].

ثانيًا: أجنحة الملائكةِ وعِظَمُ سرعتهم وحُسْنُ منظرهم:

خَلَقَ اللهُ ـ تعالى ـ للملائكة أجنحةً على اختلافِ أعدادها مِنْ مَلَكٍ لآخَرَ، وهي أجنحةٌ جميلةٌ ذاتُ ألوانٍ قويَّةٍ كألوان الدُّرِّ والياقوت، تطير بها ما بين السماءِ والأرض بسرعةٍ هائلةٍ لا تُقاسُ بمقاييسِ البشر، وتَحُفُّ بها طَلَبةَ العلمِ وأَهْلَ الذِّكْرِ في مَجالِسِهم، قال ـ تعالى ـ: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١﴾ [فاطر].

ـ وقد «رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا سَدَّ الأُفُقَ، يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ وَالدُّرِّ وَاليَاقُوتِ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ» [أخرجه أحمد في «مسنده» ـ ت. شاكر ـ (٥/ ٢٨٢)، مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه. قال أحمد شاكر: «إسنادُه صحيحٌ»، وجوَّد إسنادَه ابنُ كثيرٍ في «البداية والنهاية» (١/ ٤٤)].

ـ وفي حديثِ أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ للهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ»، قَالَ: «فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» [أخرجه البخاريُّ في «الدَّعَوات» (١١/ ٢٠٨) بابُ فضلِ ذِكْرِ الله عزَّ وجلَّ، ومسلمٌ في «الذِّكْرِ والدعاء والتوبة» (١٧/ ١٤) بابُ فضلِ مَجالِسِ الذِّكْر].

ـ وفي حديثِ صَفْوانَ بنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ» [أخرجه أحمد في «مسنده» (٤/ ٢٣٩). والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «الجامع الصغير» (٢/ ١٦٦) رقم: (١٩٥٢)].

أمَّا صورةُ خِلْقَتِهم فجميلةٌ وكريمةٌ على عَكْسِ صورةِ الشياطين، قال اللهُ ـ تعالى ـ عن جبريلَ عليه السلام: ﴿ذُو مِرَّةٖ فَٱسۡتَوَىٰ ٦﴾ [النجم]، أي: قويٌّ وحَسَنُ المنظر، وقال ـ تعالى ـ في حَقِّ يوسفَ عليه السلام لمَّا رأَتْه النسوةُ: ﴿فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ ٣١﴾ [يوسف]، ولا يَزال الناسُ يُشبِّهون الجميلَ مِنَ البشرِ بالمَلَكِ.

ثالثًا: عدَمُ حاجةِ الملائكة للأكل والشرب والنكاح:

والملائكة لا يحتاجون إلى طعامٍ ولا شرابٍ ولا نكاحٍ؛ لأنَّ أجسامهم مُركَّبةٌ تركيبًا لا يقبل الطعامَ والشراب وغيرَهما، بخلافِ الجنِّ والإنس، وهو أَمْرٌ أَطْبَقَ عليه العلماءُ، وقد نَقَلَ الفخرُ الرازيُّ ـ رحمه الله ـ هذا الإجماعَ في [تفسيره «مفاتيح الغيب» (١/ ٩٠)] بما نصُّه: «اتَّفقوا على أنَّ الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا يَنْكِحون، .. وأمَّا الجنُّ والشياطين فإنهم يأكلون ويشربون، .. وأيضًا فإنهم يتوالدون»، ونَقَلَ السيوطيُّ ـ رحمه الله ـ في [«الحبائك» (٢٦٤)] عنه ذلك ـ أيضًا ـ.

ويدلُّ على ذلك ما أَخْبَرَ اللهُ به مِنْ أنَّ الملائكة الذين دخلوا على إبراهيمَ عليه السلام في صورةِ بَشَرٍ لمَّا رأى أَيْدِيَهم لم تَمْتَدَّ إلى الطعام الذي قدَّمه لهم أَوْجَسَ منهم خيفةً فطَمْأَنُوه بالكشف عن حقيقتهم، قال ـ تعالى ـ: ﴿هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ ٢٤ إِذۡ دَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَقَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞ قَوۡمٞ مُّنكَرُونَ ٢٥ فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ فَجَآءَ بِعِجۡلٖ سَمِينٖ ٢٦ فَقَرَّبَهُۥٓ إِلَيۡهِمۡ قَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ ٢٧ فَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ ٢٨﴾ [الذاريات]، وقال في آيةٍ أخرى: ﴿فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۚ قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطٖ ٧٠﴾ [هود].

رابعًا: قدرة الملائكة على التشكُّل والتمثُّل:

مَنَحَ اللهُ ـ تعالى ـ الملائكةَ قدرةً على التشكُّل بغيرِ أشكالهم التي خُلِقوا عليها، والتصوُّرِ بغيرِ طبيعتهم الأصلية، وقَدْ وَرَدَتْ نصوصٌ شرعيةٌ كثيرةٌ تدلُّ على قدرة الملائكة في التمثُّل للأنبياء وغيرِ الأنبياء، وتارةً بصورةٍ جميلةٍ وأخرى غيرِ جميلةٍ، وأنها لا تتمثَّل إلَّا في صورة الذكور فقط؛ فمِنْ ذلك إرسالُ اللهِ ـ تعالى ـ إلى إبراهيم عليه السلام ملائكةً في صورةِ بَشَرٍ لم يعرفهم حتَّى كشفوا عن أَنْفُسهم، قال ـ تعالى ـ: ﴿هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ ٢٤ إِذۡ دَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَقَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞ قَوۡمٞ مُّنكَرُونَ ٢٥﴾ [الذاريات]، ثمَّ حَلُّوا ضيوفًا على لوطٍ عليه السلام فضَاقَ صَدْرُه وخافَ عليهم مِنْ قومِه الفاحشةَ والأذى حيث جاؤوه «في صورةِ شبابٍ حِسانٍ امتحانًا واختبارًا حتَّى قامَتْ على قومِ لوطٍ الحجَّةُ وأخَذَهم اللهُ أَخْذَ عزيزٍ مُقْتدِرٍ» [«البداية والنهاية» لابن كثير (١/ ٤٠)]، وقال تعالى ـ أيضًا ـ: ﴿وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ ٧٧ وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ ٧٨﴾ [هود].

ومِنْ ذلك إرسالُ اللهِ ـ تعالى ـ جبريلَ الروحَ الأمينَ إلى مريمَ عليها السلام وتَمَثُّلُه بصورةِ البشرِ، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا ١٦ فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا ١٧ قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا ١٨ قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمٗا زَكِيّٗا ١٩﴾ [مريم].

وقد تتشكَّلُ الملائكةُ لغيرِ الأنبياء كما في قصَّةِ مريمَ عليها السلامُ المتقدِّمةِ، أو كما في حديثِ قصَّةِ الأبرصِ والأقرع والأعمى مِنْ بني إسرائيلَ الذين أراد اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فبَعَثَ إليهم مَلَكًا في صورةِ بَشَرٍ، [أخرجه البخاريُّ في «أحاديث الأنبياء» (٦/ ٥٠٠) بابُ حديثِ أَبْرَصَ وأَعْمَى وأَقْرَعَ في بني إسرائيل، ومسلمٌ في «الزهد» (١٨/ ٩٧)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه]، والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ اكتفيتُ بإيرادِ بعضِها.

خامسًا: عِلْمُ الملائكةِ وكلامُهم وانتفاءُ المَلَلِ عنهم.

للملائكة علمٌ وفيرٌ، يعلمون الأشياءَ بالتلقِّي المُباشِرِ مِنَ الله ـ تعالى ـ بخلافِ الإنسان الذي يُميِّزُه اللهُ بقدرةِ التعرُّف على الأشياء واكتشافِ سنن الكون، ومِنَ العلم الذي علَّمَه اللهُ إيَّاهم عِلْمُ الكتابةِ كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنَّ عَلَيۡكُمۡ لَحَٰفِظِينَ ١٠ كِرَامٗا كَٰتِبِينَ ١١ يَعۡلَمُونَ مَا تَفۡعَلُونَ ١٢﴾ [الانفطار].

ومِنْ صفاتِ الملائكة الذاتيةِ: الكلامُ، وهو صفةٌ مُلازِمةٌ لهم ولو في حالِ تَمَثُّلهم بصورة الآدميِّ، ويتكلَّمون بكلامٍ مسموعٍ، يفهمون ويعقلون ـ كما تَقَدَّمَ ـ ويُكلِّمُ بعضُهم بعضًا، ويُكَلِّمون الناسَ بحَسَبِ لُغاتِهم مِنْ غيرِ حاجةٍ إلى ترجمانٍ في الدنيا، كما يسألونهم في قبورهم أو عند البشارة والنذارة يومَ القيامة، ويُسلِّمون على أهل الجنَّة ويُبشِّرون أهلَ النارِ بالعذاب، ويُكلِّمون الفريقين بحَسَبِ مَقامِهم في الجنَّة أو النار؛ ويدلُّ على ذلك نصوصٌ كثيرةٌ نكتفي منها بقوله ـ تعالى ـ: ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٣٠﴾ [البقرة]، وقولِه ـ تعالى ـ: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ ٢٣﴾ [سبأ].

والملائكة عليهم السلام يعبدون ربَّهم ويطيعونه ويُنفِّذون أوامِرَه بلا ضعفٍ ولا تَعَبٍ ولا كَلَلٍ ولا مَلَلٍ، وقَدْ وَصَفَهم اللهُ ـ تعالى ـ بأنهم: ﴿يُسَبِّحُونَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفۡتُرُونَ ٢٠﴾ [الأنبياء]، أي: لا يَضْعُفون، وقال تعالى ـ أيضًا ـ: ﴿فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُۥ بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمۡ لَا يَسۡ‍َٔمُونَ۩ ٣٨﴾ [فُصِّلَتْ]، أي: لا يَمَلُّون.

هذه ـ في الجملةِ ـ الصفاتُ الخَلْقيةُ للملائكة عليهم السلام، والمصنِّفُ ـ رحمه الله ـ لم يتعرَّضْ للصفاتِ الخُلُقية التي تَتَّصِفُ بها الملائكةُ إلَّا مِنْ جهةِ بعضِ الآيات التي استدلَّ بها ـ رحمه الله ـ، ويمكن أَنْ نُجْمِلَ الصفاتِ الخُلُقيةَ فيما يلي:

أوَّلًا: صفة الكرم والبِرِّ: فالملائكةُ جامعون لأنواع الخير والشرف والفضل، مُحْسِنون في عباداتهم، مُطيعون ربَّهم، لا يَعْصون ربَّهم فيما أَمَرَهم ويفعلون ما يُؤْمَرون، مُحِبُّون لأهل الإيمان والتوحيد ومُحْسِنون لهم بدُعائهم واستغفارِهم لهم وشفاعتِهم لأهل التوحيد يومَ القيامة ونحوِ ذلك.

ويدلُّ على تلك الصفاتِ: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ ٢٦ لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ ٢٧﴾ [الأنبياء]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿بِأَيۡدِي سَفَرَةٖ ١٥ كِرَامِۢ بَرَرَةٖ ١٦﴾ [عَبَسَ: ١٥ ـ ١٦]، أي: القرآن الكريم بأيدي الملائكة لأنهم سُفَرَاءُ اللهِ إلى رُسُله وأنبيائه، ووَصَفَ اللهُ ـ تعالى ـ هؤلاءِ الملائكةَ بأنهم كِرامٌ بَرَرَةٌ، «أي: خَلْقُهم كريمٌ حَسَنٌ شريفٌ، وأخلاقُهم وأفعالهم بارَّةٌ طاهرةٌ كاملةٌ» [«تفسير ابنِ كثير» (٤/ ٤٧١)]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ ـ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ ـ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ ـ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ ـ لَهُ أَجْرَانِ» [رواهُ البخاريُّ في «التفسير» (٨/ ٦٩١)، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين وقَصْرِها» (٦/ ٨٤) بابُ حافِظِ القرآن، وأحمد في «مسنده» (٦/ ٤٨)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها، واللفظُ لأحمد].

ثانيًا: صفة الحياء: ومِنْ خُلُقِ الملائكةِ: تَمَتُّعُهم بالحياء الذي يمنع صاحِبَه مِنْ ركوبِ الآثام واقترافِ المعاصي والذنوب، والحياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمان؛ ويدلُّ على اتِّصافِهم بخُلُقِ الحياءِ ما رواهُ مسلمٌ عن عائشة رضي الله عنها، وفيه أنها قالت للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «.. ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ؟» فَقَالَ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ المَلَائِكَةُ» [أخرجه مسلمٌ في «فضائل الصحابة» (١٥/ ١٦٨) بابُ فضائلِ عثمانَ رضي الله عنه].

قال النوويُّ ـ رحمه الله ـ في [«شرح مسلم» (١٥/ ١٦٩)]: «وفيه فضيلةٌ ظاهرةٌ لعثمانَ، وجلالتُه عند الملائكةِ، وأنَّ الحياءَ صفةٌ جميلةٌ مِنْ صفات الملائكة».

ثالثًا: صفة التواضع للحقِّ والخَلْق: ومِنْ خُلُقِ الملائكة الكِرامِ اتِّصافُهم بالتواضع للحقِّ والخَلْقِ دون تكبُّرٍ أو استعلاءٍ؛ ويدلُّ عليه قولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ ١٩﴾ [الأنبياء]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ يَسۡجُدُونَۤ۩ ٢٠٦﴾ [الأعراف]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا ١٧٢﴾ [النساء].

ومِنْ تَواضُعِهم للخَلْقِ: محبَّتُهم لعِبادِ الله ودُعاؤُهم واستغفارُهم لهم والإحسانُ إليهم ـ كما سيأتي ـ [انظر: (ص )].

(٥) بعد ذِكْرِ صفةِ الملائكة الخَلْقيةِ شَرَعَ المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ في بيانِ الحكمةِ مِنْ خَلْقِ الملائكة وما وَكَّلَهم اللهُ به مِنْ أعمالٍ عِظامٍ يقومون بها تعبُّدًا لله ـ تعالى ـ:

فالحكمةُ مِنْ خَلْقِ الملائكةِ الكِرامِ هي عِبادةُ الله ـ سبحانه ـ؛ فهُمْ عبيدُه كسائرِ الخَلْقِ، أَكْرَمهم اللهُ بعبادته وطاعتِه، وحَفِظَهم اللهُ بفعلِ المأمور وعَصَمَهم مِنْ ركوب المحظور، وفَطَرَهم على العبادات الموكولةِ إليهم وجَبَلَهم عليها؛ فهُمْ مُيسَّرون للطاعات مطبوعون عليها، لا يَعْصُون أَمْرَ اللهِ ولا يُخالِفونه، ويفعلون ما يأمرهم به مُطيعين مُسْتجيبين؛ وبذلك يستقيم أَمْرُ العالَمِ العلويِّ والسفليِّ، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ ٢٦ لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ ٢٧ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ ٢٨ ۞وَمَن يَقُلۡ مِنۡهُمۡ إِنِّيٓ إِلَٰهٞ مِّن دُونِهِۦ فَذَٰلِكَ نَجۡزِيهِ جَهَنَّمَۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ ٢٩﴾ [الأنبياء]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ٦﴾ [التحريم].

هذا، وقد دلَّتِ النصوصُ الشرعيةُ على أنَّ عبادةَ الملائكةِ أنواعٌ: فمنها عباداتٌ محضةٌ، وعباداتٌ أخرى مُتمثِّلةٌ في أعمالٍ عِظامٍ تَتوافَقُ مع ما وَهَبَهم اللهُ مِنْ فائقِ القوَّةِ الجسدية ـ التي يتمتَّعون بها ـ ما لا يطيقها الآدميُّ، لا تنقطع أعمالُهم بانقطاع الدنيا وانتهائها ـ كما هو شأنُ الجنِّيِّ والإنسيِّ ـ بل تبقى أعمالُ الملائكةِ مُسْتمِرَّةً يومَ القيامةِ ـ كما سيأتي إيضاحُه ـ [انظر: (ص )].

أوَّلًا: عبادات الملائكة المحضة:

أمَّا العبادات المحضةُ التي يَتعبَّد بها الملائكةُ ربَّهم فتنقسم إلى:

أ. عباداتٍ قلبيةٍ: فمنها: الخوفُ والخشية؛ فالملائكة الكِرامُ على علمٍ كبيرٍ بربِّهم وعلى قَدْرٍ كبيرٍ مِنْ تعظيمه لقُرْبِهم منه؛ لذلك كانَتْ قلوبُهم خائفةً وَجِلةً منه، وخاشيةً مُشْفِقةً، قال اللهُ ـ تعالى ـ مُخْبِرًا عن حالِ ملائكته: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ﴾ [النحل: ٥٠]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ﴾ [سبأ: ٢٣]، وقال تعالى ـ أيضًا ـ: ﴿يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ ٢٨﴾ [الأنبياء]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ مِنۡ خِيفَتِهِۦ﴾ [الرعد: ١٣].

وممَّا يدلُّ ـ مِنَ السنَّةِ ـ على شدَّةِ خوفِ الملائكة مِنْ ربِّهم:

ـ حديثُ جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِالمَلَإِ الأَعْلَى وَجِبْرِيلُ كَالحِلْسِ البَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» [أخرجه الطبرانيُّ في «المعجم الأوسط» (٥/ ٦٤)، وابنُ أبي عاصمٍ في «السنَّة» (١/ ٢٧٦). والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «ظلال الجنَّة» (١/ ٢٧٦) وفي «السلسلة الصحيحة» (٥/ ٣٦٢)].

ـ وعن عبد الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: «إِذَا تَكَلَّمَ بِالوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَلْصَلَةً كَصَلْصَلَةِ الحَدِيدِ عَلَى الصَّفْوَانِ؛ فَيَفْزَعُونَ فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا وَظَنُّوا أَنَّهُ أَمْرُ السَّاعَةِ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ تَنَادَوْا: «مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟» قَالُوا: «الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ»» [أخرجه أبو داود في «السنَّة» (٥/ ١٠٥) بابٌ في القرآن، مرفوعًا، وعلَّقه البخاريُّ في «التوحيد» (١٣/ ٤٥٢) بابُ قولِ الله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ..﴾ [سبأ: ٢٣] موقوفًا، واللفظُ لأبي الشيخ في «العظمة» (٢/ ٤٦٤). وإسنادُه صحيحٌ، قال الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٣/ ٢٨٣): «والموقوف ـ وإِنْ كان أَصَحَّ مِنَ المرفوع؛ ولذلك علَّقه البخاريُّ في «صحيحه» (٩/ ١١٣) (مطبعة الفجالة) ـ فإنه لا يُعِلُّ المرفوعَ؛ لأنه لا يُقالُ مِنْ قِبَلِ الرأيِ كما هو ظاهرٌ، لاسيَّما وله شاهدٌ مِنْ حديثِ أبي هريرة مرفوعًا نحوَه»].

ب. عباداتٍ قوليةٍ:

منها الذِّكْرُ والتسبيح والاستغفار والدعاء؛ فالملائكة الكِرامُ يذكرون اللهَ كثيرًا، وأَفْضَلُ ذِكْرِهم تسبيحُ اللهِ ـ تعالى ـ، وهو تسبيحٌ دائمٌ غيرُ مُتوقِّفٍ ولا مُنْقطِعٍ، ولا يَلْحَقهم في تسبيحهم لله مَلَلٌ ولا كَلَلٌ ولا سآمةٌ؛ ويدلُّ على ذلك نصوصٌ كثيرةٌ منها: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِن فَوۡقِهِنَّۚ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٥﴾ [الشورى]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ ١٩ يُسَبِّحُونَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفۡتُرُونَ ٢٠﴾ [الأنبياء]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿فَإِنِ ٱسۡتَكۡبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُۥ بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمۡ لَا يَسۡ‍َٔمُونَ۩ ٣٨﴾ [فُصِّلَتْ].

وقد يأتي التسبيحُ مقرونًا بالدعاء لأهل الأرض والاستغفارِ لهم كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡءٖ رَّحۡمَةٗ وَعِلۡمٗا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ ٧ رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٨ وَقِهِمُ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِۚ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ يَوۡمَئِذٖ فَقَدۡ رَحِمۡتَهُۥۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٩﴾ [غافر]؛ ولذلك سُمُّوا بالمُسَبِّحين لكثرةِ تسبيحهم ولحُبِّهم له كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّآفُّونَ ١٦٥ وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ ١٦٦﴾ [الصافَّات]؛ فاللهُ ـ سبحانه ـ اختارَ لهم أَفْضَلَ الذِّكْرِ وأحَبَّ الكلامِ إليه.

ـ فعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: «أَيُّ الكَلَامِ أَفْضَلُ؟» قَالَ: «مَا اصْطَفَى اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ» [أخرجه مسلمٌ في «الذِّكْر والدعاء والتوبة والاستغفار» (١٧/ ٤٨) بابُ فضلِ: «سبحان اللهِ وبحَمْدِه»].

ـ وفي حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ» [أخرجه البخاريُّ في «التوحيد» (١٣/ ٥٣٧) بابُ قولِ الله ـ تعالى ـ: ﴿وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ [الأنبياء: ٤٧]، ومسلمٌ في «الذِّكْر والدعاء والتوبة والاستغفار» (١٧/ ١٩) بابُ فضلِ التهليل والتسبيح والدعاء].

ومِنَ العبادات القوليةِ ـ أيضًا ـ: دعاءُ الملائكةِ الكِرامِ لجميعِ المؤمنين دعاءً عامًّا بالخير والرحمة والهداية إلى النور مع الاستغفار لهم؛ قال ـ تعالى ـ: ﴿هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيۡكُمۡ وَمَلَٰٓئِكَتُهُۥ لِيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيمٗا ٤٣﴾ [الأحزاب]، والمرادُ بالصلاةِ مِنَ الملائكة هو: بمعنى الدعاءِ للناسِ والاستغفارِ لهم، [انظر: «تفسير القرطبي» (١٤/ ١٩٨)، «تفسير ابنِ كثير» (٣/ ٤٩٦)].

كما أنَّ الملائكة الكِرامَ تدعو للمؤمنين بالخير والرحمةِ دعاءً خاصًّا لأصحاب الأعمال الصالحة:

ـ كدُعائهم لطالبِ العلم ومُعلِّمِه؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» [أخرجه الترمذيُّ في «العلم» (٥/ ٥٠) بابُ ما جاء في فضلِ الفقه على العبادة، مِنْ حديثِ أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترمذي» برقم: (٢٦٨٥)].

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «.. وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالحِيتَانُ فِي جَوْفِ المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ..» الحديث [أخرجه أبو داود في «العلم» (٤/ ٥٧) بابُ الحثِّ على طلبِ العلم، والترمذيُّ في «العلم» (٥/ ٤٨) بابُ ما جاء في فضلِ الفقه على العبادة، وابنُ ماجه في «المقدِّمة» (١/ ٨١) بابُ فضلِ العلماء والحثِّ على طلبِ العلم، مِنْ حديثِ أبي الدرداء رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترمذي» (٢٦٨٢)].

ـ ودعاء الملائكة الكِرامِ لمُنْتظِرِ الصلاةِ في المسجد ولِلَّذين يَصِلُون الصفوفَ ويَسُدُّون الفُرَجَ ودعاؤهم للصفوف الأولى؛ ويدلُّ على ذلك قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ»» [أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» (١/ ٥٣٨) بابُ الحَدَثِ في المسجد، ومسلمٌ في «المساجد ومَواضِعِ الصلاة» (٥/ ١٦٦) بابُ فضلِ صلاة الجماعة وان