"ومن لم يفرق بين حالي الإختيار والاضطرار فقد جهل المعقول والمنقول" (العواصم والقواسم في الذب عن سنة أبي القاسم, 8/174 ط. مؤسسة الرسالة, وقد ساق الأدلة من العقل والنقل على هذه الجملة, فارجع إليه)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى - : "الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد – أو بلدان – له حكم الإمام في جميع الأشياء ولولا هذا ما استقامت الدنيا, لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم" اهـ (الدرر السنية في الأجوبة النجدية, 7/239)
وقال العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات فميتته ميتة جاهلية" (أخرجه مسلم في صحيحه, كتاب الإمارة 3/1476) "قوله: "عن الطاعة"؛ أي طاعة الخليفة الذي وقع الإجتماع عليه وكأن المراد خليفة أي قطر من الأقطار, إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية, بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلت فائدته.
وقوله: "وفارق الجماعة"؛ أي خرج عن الجماعة الذين اتفقوا على طاعة إمام انتظم به شملهم واجتمعت به كلمتهم وحاطهم عن عدوهم" (سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام 3/499 ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) اهـ.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في شرح قول صاحب "الأزهار": "ولا يصح إمامان": "وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر – أو أقطار – الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر كذلك ولا ينعقد لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته.
فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر.
فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب.
ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يُدرى من قام منه أو مات, فالتكليف بالطاعة والحال هذا تكليف بما لا يطاق.
وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد...
فاعرف هذا, فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة, ودع عنك ما يقال في مخالفته فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار.
ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها" اهـ (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار 4/512)
فهذه أقوال ثلاثة من علماء الأمة المجتهدين تقرر صحة تعدد الأئمة في بيعة الاضطرار معولها على الأدلة الشرعية والقواعد المرعية والمصالح الكلية وقد سبقهم إلى نحو هذا ثلة من العلماء المحققين.
من ذلك قول العلامة ابن الأزرق المالكي قاضي القدس (في كتابه "بدائع السلك في طبائع الملك": (1/76-77) ط. العراق, تحقيق الدكتور علي النشار): "إن شرط وحدة الإمام بحيث لا يكون هناك غيره لا يلزم مع تعذر الإمكان.
قال ابن عرفة – فيما حكاه الأُبِّيُّ عنه -: فلو بعُد موضع الإمام حتى لا ينفذ حكمه في بعض الأقطار البعيدة؛ جاز نصب غيره في ذلك القطر.
وللشيخ علم الدين - من علماء العصر بالديار المصرية -: يجوز ذلك للضرورة..." اهـ.
وقد حكى العلامة ابن كثير الخلاف في هذه المسألة وذكر قول الجمهور القائلين بعدم الجواز ثم قال: "وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تبعادت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما وتردد إمام الحرمين في ذلك.
قلت: وهذا يشبه حال الخلفاء من بني العباس بالعراق, والقاطميين بمصر, والأمويين بالمغرب..." (تفسير ابن كثير: 1/74, ط. مكتبة النهضة بمكة المكرمة) اهـ.
وقال المازري في "المعلم" (المعلم بفوائد مسلم, 3/35-36): "العقد لإمامين في عصر واحد لا يجوز, وقد أشار بعض المتأخرين من أهل الأصول إلى أن ديار المسلمين إذا اتسعت وتباعدت, وكان بعض الأطراف لا يصل إليه خبر الإمام ولا تدبيره, حتى يضطروا إلى إقامة إمام يدبرهم, فإن ذلك يسوغ لهم" اهـ.
وبهذه النقول الواضحة يتجلى ما عليه بعض المحققين من أهل العلم من جواز تعدد الأئمة للضرورة والحاجة.
وعليه؛ يثبت شرعا لهؤلاء الأئمة المتعددين ما يثبت للإمام الأعظم يوم أن كان موجودا, فيقيمون الحدود نحوه, ويسمع ويطاع لهم, ويحرم الخروج عليهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -:
"والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق..." (مجموع الفتاوى, 35/175-176).
انتهى من كتاب "معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة" للشيخ عبد السلام بن برجس العبد الكريم رحمه الله تعالى.