الحمد لله وحده وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإننا نتابع ذكر المعيقات عن وصول طالب العلم إلى مأربه العليِّ فنقول:
المعيق الثاني: استعجال الثمر.
يظن كثير من الطلبة أن العلم لقمة سائغة، أو جرعة عذبة, سرعان ما تظهر نتائجها، وتتبين فوائدها، فيؤمل في قرارة نفسه أنه بعد مضي سنة، أو أكثر أو أقل ـ من عمره في الطلب ـ سيصبح عالماً جهبذاً، لا يدرك شأوه، ولا يشق غباره.
وهذه نظرة خاطئة، وتصور فاسد، وأمل كاسد، أضراره وخيمة، ومفاسده عظيمة، إذ يفضي بصاحبه إلى ما لا تحمد عقباه، من القول على الله بغير علم، والثقة العمياء بالنفس، وحب العلو والتصدر.. وينتهي مطافه بين هذه الأشياء إلى هجر الانتساب للعلم وأهله. ورحم الله المأمون عندما قال ـ متهكماً بهذا الضرب من الطلبة ـ : «يطلب أحدهم الحديثَ ثلاثة أيام ثم يقول: أنا من أهل الحديث...»(1).
والناظر إلى حال السلف يرى العجب العجاب من صبرهم على مرارة التحصيل، وطول الجادة، لا يفترون ولا يتقاعسون ولا يستكبرون، بل شعارهم «العلم من المهد إلى اللحد».
قال الإمام ابن المديني: قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: «بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب»(2), وقال الإمام الشافعي: «لا يبلغ في هذا الشأن رجل حتى يُضر به الفقر، ويؤثره على كل شيء»(3)، وقال ابن حمزة: قال لي يعقوب بن سفيان ـ الحافظ الإمام ـ : «أقمت في الرحلة ثلاثين سنة»(4).
فعلى طالب العلم أن يأتي بهؤلاء الأئمة، وأن يحذو حذوهم، حتى ينال مناه، ويدرك بغيته، فإن منهجهم سليم، وطريقهم قويم، وما حصل لهم ما حصل من ذكر حسن، ونفع مستمر للمسلمين: إلاَّ بالصبر والمثابرة، وازدراء كل ما يبذل من مال ووقت في سبيل العلم والمعرفة.
وختاماً لهذه الكلمة أذكر محاورة بين اثنين، تبين قيمة العلم ومكانته العالية، وأنه لا يحصل إلا لمن بذل فيه كل شيء. قال رجل لآخر: بما أدركت العلم؟ فقال: «طلبته فوجدته بعيد المرام، ولا يصاد بالسهام، ولا يرى في المنام، ولا يقسم بالأزلام، ولا يورث عن الآباء والأعمام. فتوسلت إليه بافتراش المدر، واستناد الحجر، وإدمان السَّهر، وكثرة النظر، وإعمال الفكر، ومتابعة السفر، وركوب الخطر، فوجدته شيئاً لا يصلح إلا للغرس، ولا يغرس إلا في النفس، ولا يسقى إلا بالدرس، أرأيت من أشغل نهاره بالجمع، وليله بالنوم، هل يخرج من ذلك فقيهاً؟ كلا والله: إن العلم لا يحصل إلا لمن اعتضد الدفاتر، وحمل المحابر، وقطع القفار، وواصل في الطلب الليل والنهار»(5).
ولعل في هذه المحاورة الظريفة ما يزيل الصورة المترسبة في أذهان الطلبة: أن العلم ينال في مدة وجيزة، وفترة قصيرة، فيواصلوا جهودهم، ويحتقروا مبذولهم، في طريق العلم والتعلم، حتى يفتح الله عليهم أبواب العلوم والمعارف فيصبحوا قادة أئمة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــ
(1) سير أعلام النبلاء 10/876.
(2) التذكرة للذهبي (ترجمة الشعبي).
(3) السير 10/89.
(4) التذكرة للذهبي (ترجمة مكحول).
(5) ينظر مقامات بديع الزمان (المقامة العلمية) والزيادات التي هنا من بعض شيوخنا.