مقال أيام معدودات الشيخ محمد بن غيث غيث

أيام معدودات
الأربعاء 12 جويلية 2017    الموافق لـ : 17 شوال 1438

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد وصف الله تعالى رمضان بأنه {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، يعده الناس عدا؛ كم مضى منه؟! وكم بقي؟! ولو تفكر الإنسان في هذا لنعى نفسه، ولعلم أن هذه الأيام المعدودات تُعد من عمره، وتقربه إلى أجله، ولعله لا يدرك مثلها في الخير والأجر فيما بقي من أيامه، والعبد في دنياه إنما يستعد لآخرته، وهو فيها على جناح سفر، لا يدري متى يحط ركابه بين الموتى، ويرتهن بعمله، فعن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان، وكان أميرا على الكوفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، «فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصَرْمٍ وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ، يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لَا زَوَالَ لَهَا، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ، فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا، لَا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا، وَوَاللهِ لَتُمْلَأَنَّ، أَفَعَجِبْتُمْ؟ وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ»([1]).

فمن الحرمان أن يدرك الإنسان أيام الخير والمغفرة والرحمة، وهي أيام معدودة، ثم يضيعها ويفرط فيها، فعنكعب بن عجرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ حِينَ  ارْتَقَى دَرَجَةً: «آمِينَ» ، ثُمَّ ارْتَقَى الْأُخْرَى فَقَالَ: «آمِينَ» ، ثُمَّ ارْتَقَى الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «آمِينَ» ، فَلَمَّا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَفَرَغَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ كَلَامًا الْيَوْمَ مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ قَبْلَ الْيَوْمِ؟، قَالَ:«وَسَمِعْتُمُوهُ؟» ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ لِي حِينَ ارْتَقَيْتُ دَرَجَةً فَقَالَ: بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ أَوْ أَحَدَهُمَا لَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: آمِينَ، وَقَالَ: بَعُدَ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ»([2]).

فهذا دعاء من جبريل عليه السلام وتأمين من النبي صلى الله عليه وسلم على من أدرك رمضان ولم يحصل على مغفرة، وذلك أن أبواب الرحمة والسماء، وأبواب المغفرة وإجابة الدعاء قد فتّحت، وأبواب الشر والجحيم قد غلّقت، والشياطين ومردة الجن قد صفّدت، فالأرواح صافية، والقلوب مقبلة، والنفوس مهيئة، والعتقاء كل ليلة، والمنادي ينادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، فكيف لا يتعرض مسلم لشيء من هذه الأمور حتى يفوز بأعلى الأجور، أليس هذا من الحرمان والخسران؟

إن هذه الأيام المعدودة تستدعينا للجد والاجتهاد والمسارعة في استغلالها، والمسابقة مع أيامها، عسى أن يكتب لنا بهذه المعدودات أعلى الدرجات والجنات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ، فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي»([3]).

والناس في الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»([4]).

قال ابن رجب رحمه الله: "دل الحديث على أن كل إنسان فهو ساع في هلاك نفسه، أو في فكاكها، فمن سعى في طاعة الله، فقد باع نفسه لله، وأعتقها من عذابه، ومن سعى في معصية الله، فقد باع نفسه بالهوان، وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه"([5]).

كان ابن عون رحمه الله إِذَا جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ جَاءَ بِرَمْلٍ فَأَلْقَاهُ فِي الْمَسْجِدِ ([6])،ثُمَّ يَقُولُ لِبَنِيهِ: «مَا تَبْتَغُونَ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ لَا يَنَامُ»([7]).

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ"([8]).

{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44].

فنسأل الله تعالى أن يحيي قلوبنا، وأن يبصرنا بعيوبنا، وأن يرفع هممنا، ويسلك بنا سبيل محابّه ومرضاته، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 


([1])  رواه مسلم.

([2])  رواه الطبراني والبيهقي في الشعب.

([3])  رواه أحمد وغيره.

([4])  رواه مسلم.

([5])  جامع العلوم والحكم ص(28).

([6])  وذلك لأن مساجدهم كانت مفروشة بالحصباء وهي الحجارة الصغيرة فتؤذي مع طول المكث، والرمل ناعم.

([7]) مختصر قيام رمضان للمروزي ص(213).

([8])  رواه البخاري.