الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد.
فإن مما يبهج القلب، ويقر العين، ويسعد النفس، ما نعيشه في هذه الأيام من نهضة علمية ترامت في أطراف البلاد، وعمرت كل مجتمع ونادٍ.
ولقد كان لهذه النهضة أثر فعّال في تغيير مجرى حياتنا.. فبعد أن كنا نعيش حياة الدعة والراحة أصبحت حياتُنا حياة جدّ ومثابرة على المعرفة والتحصيل. فتجد شبابنا الصالح بين ساع إلى إدراك العلم ومجالس لأهله، ومحب لهم.
ولا شك أن هذه الحركة العلمية حققت إنجازات كبيرة، وقطعت مراحل كثيرة في فترة زمنية وجيزة، فحركت همم أقوام حتى أصبحوا قادة في العلم وسادة. وأحيت علوماً ومعارف اندرس رسمها، وفرضت منهجاً علمياً قائماً على الدليل والاستدلال، من لزمه بزغت شمسه وعلا صيته، ومن لا فلا.
إن من الواجب على كل مسلم أن يساهم في الرقي بهذه النهضة إلى أعلى درجات الكمال، إما بكلمة تشجيعية، أو بعمل يخدم أفرادها، أو بتوجيه هادفٍ يسعى إلى التقويم والتجديد.
ومساهمة في الرقي بهذه الحركة أود أن أبين بعض ما عساه أن يعيق سير الطالب إلى العلم، رجاء أن يكون في إبداء هذه المعيقات تقويم لمنهج الطلب، وتذليل للصعاب التي يواجهها الناشئ في مبدأ مسيره إلى التعلم والطلب. ولم أرتبها مراعاة للأهم، بل حسب ما اتفق في الذهن. والله سبحانه أسأل المعونة والسداد.
* المعيقالأول: أخذالعلمعنالأحداث:
لقد فشت ظاهرة أخذ العلم عن صغار الأسنان بين طلاب العلم في هذا الزمن، وهذه الظاهرة في الحقيقة داءٌ عضال، ومرضٌ مزمن، يعيق الطالب عن مراده، ويعوج به عن الطريق السليم الموصل إلى العلم. وذلك لأن أخذ العلم عن صغار الأسنان الذين لم ترسخ قدمهم في العلم، ولم تشب لحاهم فيه، مع وجود من هو أكبر منهم سناً، وأرسخ قدماً يضعفُ أساس المبتدئ ويَحرِمه الاستفادة من خبرة العلماء الكبار.
واكتساب أخلاقهم التي قوّمها العلم والزمن .. إلى غير ذلك من التعليلات التي يوصي بها أثر ابن مسعود رضي الله عنه حيث يقول: «ولا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، وعن أمنائهم، وعلمائهم، فإذا أخذوه عن صغارهم وشرارهم هلكوا».
قال ابن قتيبة ـ فيما نقله الخطيب في نصيحته(1) ـ: «يريد لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ، ولم يكن علماؤهم الأحداث؛ لأن الشيخ قد زالت عنه متعة الشباب، وحِدَّته، وعجلته، وسفهه، واستصحب التجربة والخبرة، ولا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزله الشيطان استزلال الحَدَث، فمع السن الوقار والجلالة والهيبة.
والحَدَث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخ، فإذا دخلت عليه، وأفتى هَلك وأهلك». أ.هـ.
وليس المراد أن يُهجر علم الحَدَث، ويُنبذ، كَلا، وإنما المراد إنزال الناس منازلهم، فَحَقُّ الحدث النابغ أن ينتفع به في المدارسة والمذاكرة والمباحثة .. أما أن يصدر للفتوى، ويكتب إليه بالأسئلة، وتعقد لأجله الحلقات فلا، وألف لا، لأن ذلك قتلٌ له وفتنة. قال الفضيل بن عياض ـ إمام أهل زمانه في الزهد والفضل ـ: «لو رأيتُ رجلاً اجتمع الناس حوله لقلت: هذا مجنون. من الذي اجتمع الناس حوله، لا يحب أن يجود كلامه لهم. وقال أيضاً رحمه الله تعالى: بلغني أن العلماء فيما مضى كانوا إذا تعلموا عملوا، وإذا عملوا شُغلوا، وإذا شُغلوا فُقدوا، وإذا فُقدوا طُلبوا، فإذا طُلبوا هَربوا»(2).
فيا أيها الطلاب: إذا أردتم العلم من منابعه فهاؤم العلماء الكبار الذين شابت لحاهم ونحلت جسومهم، وذبلت قواهم في طريق العلم والتعليم، الزموهم قبل أن تفقدوهم، واستخرجوا كنوزهم قبل أن توارى معهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
ــــــــــــــ
(1) ص229 من المجموعة الكمالية.
(2) انظر سير أعلام النبلاء، ج8/434.