مقال ثقافة الحوار في الإسلام الشيخ أحمد بن محمد الشحي

ثقافة الحوار في الإسلام
الأربعاء 12 جويلية 2017    الموافق لـ : 17 شوال 1438

أرسى الإسلام دعائم الحوار البناء، ووضع معالمه ومبانيه في أرقى صورة، وجعل منه وسيلة هادفة ذات قواعد وآداب ورسالة شريفة، تخدم الحق، وتدور في فلكه، وتأكيداً على هذه الغاية السامية أمر الإسلام بالمحاورة بالتي هي أحسن مع أصحاب الديانات والثقافات الأخرى، فضلاً عن مراعاة هذا المعيار الراقي مع من هم إخوة في الدين، فقال سبحانه: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، وقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}، وقال سبحانه لموسى وهارون عليهما السلام: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}، فالإسلام كان سباقاً إلى ترسيخ أصول الحوار البناء وتقرير قواعده المثلى، والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى إظهار ثقافتهم الناصعة للعالم، ليطلعوا على محاسن دينهم الحنيف وأسبقيته في بناء الحياة العصرية المدنية الحقيقية الراقية الصالحة والمصلحة لكل زمان ومكان.

فمن ذلك أن للحوار في الإسلام أهدافاً عدة بحسب المضمون والموضوع، منها:

  1.  تعزيز روح التواصل ومد جسور التفاهم بين الناس.

  2.  اكتساب العلم وتلقي المعرفة.

  3.  تنويع الآراء والتصورات للوصول إلى أحسن النتائج وأفضلها.

  4.  معرفة وجهات النظر لتفهم المواقف والنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة.

  5.  إيصال الحق للآخر عن اقتناع وقبول.

  6. إقامة الحجة ودفع الشبهة والتصدي للأفكار المنحرفة كالأفكار، التي تدعو إلى التحريض والتطرف وتبث أسباب الكراهية والفرقة وتهدد وحدة الأمة وتماسكها.

كما أن للحوار في الإسلام آداباً عدة لتؤتي ثمارها المرجوة، منها:

  1. إخلاص النية لله وطلب الوصول للحق.

  2. التحلي بالأخلاق الفاضلة من التواضع والرحمة والرفق وحسن الكلام والإنصاف وغير ذلك.

  3. الالتزام بأدب الاستماع والإصغاء.

  4. الالتزام بالمنهج العلمي وتحري طرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق.

  5. التراجع عن الخطأ والبعد عن التعصب للرأي والرضا بالنتائج الصحيحة في أي طرف كانت، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: «ما كلمت أحداً قط إلا ولم أبال بين الله الحق على لساني أو لسانه»، ولذلك لم يكن من الغريب أن يسطر علماء المسلمين صفحات مشرقة في أدب الخلاف وفنون التحاور، لأنهم إنما كانوا يهدفون إلى نصرة الحق وإظهاره على أي لسان كان، فكان أدبهم في ذلك أدباً رفيعاً قل له نظير.

إن الحوار في الإسلام مطلب أساسي لتقرير الحق وإظهاره ودعوة الناس إلى الله تعالى، فإن من سنن الله الكونية وقوع الاختلاف بين البشر في أديانهم ومعتقداتهم وآرائهم، كما قال تعالى: {ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك}، ما يتطلب ذلك معرفة صحيحة بفقه التعامل مع الخلاف بأنواعه، وتوظيف الحوار توظيفاً سليماً بما يناسب المقام، وينسجم مع نوع الخلاف ويساعد على تقرير الحق ويسهم في التقارب الحقيقي بين المختلفين، ومما نحتاج إليه من ذلك هنا ثلاثة أمور مهمة:

الأمر الأول: حسن توظيف الحوار داخل البيت المسلم لتضييق شقة الخلاف السلبي، الذي يؤدي إلى تنافر القلوب ويوقع البغضاء بين المسلمين بالاحتكام الصادق إلى الكتاب والسنة في مواطن النزاع قلباً وقالباً، عملاً بقول الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي»، وما لم يتم توظيف الحوار البناء في هذا الاتجاه بجد وإخلاص فإن أسباب العداوات لن تزال ماثلة في القلوب والعقول.

الأمر الثاني: توظيف الحوار لإرساء ثقافة التعايش السلمي المبني على حفظ الحقوق وعدم العدوان على الآخرين بغير وجه حق، سواء في ما يتعلق بعلاقة المسلمين مع بعضهم بعضاً، أو في علاقتهم بالمستأمنين والمعاهدين والمسالمين، والرد على شبهات من يستهدف الأبرياء، ويؤجج نيران الفتن والصراعات.

الأمر الثالث: تقرير أدب الخلاف في مسائل الاجتهاد التي لا تفسد للود قضية، وتشجيع الأفكار والآراء الإيجابية التي تفيد الناس في أمور معاشهم وتساعد في حل مشكلاتهم وتنمية حياتهم وعمارة الأرض وتطويرها وتقود إلى الرقي والازدهار والتقدم.

ومما يحسن الاختتام أن ندرك أن الحوار يتنوع في أهدافه وأساليبه ومضامينه بتنوع المواضيع والمحاورين، فهناك الحوار على مستوى الأفراد، وعلى مستوى فئات معينة من علماء وغيرهم، وعلى مستوى الأسرة، وعلى مستوى المؤسسات، وعلى مستوى الدول بين قادتها ومسؤوليها، وعلى مستوى الموافق، وعلى مستوى المخالف، وعلى مستوى المحب الودود، وعلى مستوى المبغض الشانئ، كما تتنوع غايات الحوار بحسب مجالاته، فهناك الغايات الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، والمعيار في ذلك كله قول الله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}.