مقال نعمة البصر الشيخ علي بن يحيى الحدادي

نعمة البصر
الجمعة 12 فيفري 2021    الموافق لـ : 29 جمادة الثانية 1442

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما

أما بعد:

فاتقوا الله واذكروه، وتأملوا نعم الله عليكم واشكروه، فما أكثرَ نعم الله علينا قال تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وقال تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}

إخوة الإيمان: إن من أعظم النعم التي امتن الله بها على عباده أن جعل لهم أبصاراً يرون به ما شاء من مخلوقاته، فيرون به المخلوقات الكبار كالسماء والأرض والأفلاك فيعرفون عظمة ربهم وخالقهم، ويرون الذر وما دقّ من الكائنات فيعرفون كمال قدرة بارئهم، ويرون ما فيه بهجةُ أرواحهم وقرة أعينهم من والديهم وأولادهم، وأزواجهم وأحبتهم، ويرون ما تُسر به العين وتَبتهج به النفس من الأشجار والأنهار، والطيور والزهور، وغيرها من جميل ما خلق الله. ويستعينون بأبصارهم على قضاء حوائجهم، فيرون مواطئ أقدامهم، ومواقع حاجاتهم، فيصِلون حيث يريدون، ويتنولون ما يشاؤون، كل ذلك بأنفسهم دون قائد ولا مساعد. وجعل الله البصر من وسائل تحصيل العلوم النافعة فهو من أعظم الوسائل المعينة على القراءة والكتابة بيسر وسهولة، فلله الحمد والمنة على ما رزقنا من هذه النعمة، ونسأله سبحانه أن يوزعنا شكرها وأن يعيذنا من كفرها.

عباد الله:

إن الله تعالى امتن على عباده بنعمة الأبصار في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} فخالق الأعين والأبصار هو الله وحده، ومع ذلك فكم من أم جاهلة نشأت في بلد موبوء بالطرق الصوفية الخرافية إذا رزقت بطفل أعمى أو كريم عين، هرعت إلى قبور الأنبياء أو الأولياء والمزارات والأضرحة تطلب من الموتى أن يهبوا لوليدها بصراً وشفاءً أعاذنا الله وإياكم من الشرك كله.

وأمرنا سبحانه وتعالى أن ننظر ونتفكر فيما خلق في سماواته وأرضه من عجائب خلقه، وبدائع صنعه، لنرى فيها علمه وقدرته، وإرادته وحكمته، ورحمته وعزته، وغير ذلك من صفاته التي تستلزمها هذه الآيات والمخلوقات قال تعالى{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} فهذه المخلوقات عظيمُها وحقيرُها هي من براهين التوحيد، فمن خلقها وسواها، وأبدعها وسخرها، هو المستحق لأن تصرف العبادة كلُّها له وحده جل وعلا. كما أن النظر فيها بالبصائر النيرة والقلوب الخاشعة مما يزيد الإيمان ويزيد اليقين.

عباد الله:

إن الله تعالى نهانا أن نمد هذه الأبصار إلى ما لا ينبغي لها أن تمتد إليه فقال تعالى {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ _والخطاب في الآية للنبي ﷺ وأمته _ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} والمعنى لا تنظر نظر إعجاب ولا تعظيم ولا محبة لمتع الدنيا ولا لأهلها لما في هذا النظر من الفتن والمحاذير.

كما أمرنا الله تعالى رجالاً ونساءً بغض الأبصار فقال تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} فعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يجاهد نفسه على غض بصره عما حرم الله عليه النظرَ إليه سواء كانت حقيقة أو صورة. فإن النظر المحرم يفتن القلب، ويدعو إلى الفاحشة، ويشتت الفكر، ويقطع الإنسان عن مصالحه الدينية والدنيوية، ويسبب الحسرة والندامة. لهذا جاء التوجيه النبوي الكريم عند رؤية ما لا يحل النظر إليه (اصرف بصرك) وقال ﷺ لعلي “يا عليُّ، لا تُتْبِعِ النظرةَ النظرةَ، فإن لك الأولى، _أي النظرة التي وقعت بلا قصد _ وليست لك الآخِرة” رواهما أبو داود.

كما نهينا عن النظر إلى ما في بيوت الناس لذلك نهينا أن نقف عند الاستئذان أمام الباب، ولكن نكون عن يمين الباب أو شماله، حتى لا نرى ما لا يصلح لنا أن نراه من بيوت الناس، قال ﷺ لرجل استأذن ووقف أمام باب بيته ﷺ : “هكذا عنك _يعني قف يميناً أو شمالاً_  فإنما الاستئذَانُ مِنَ النَّظَرِ” رواه أبو داود، وينبغي أن يُنبّه عمالُ توصيل الطلبات إلى البيوت  على هذا الأدب فنرى كثيراً منهم يقفون أمام الأبواب مباشرة ولو كانت مفتوحة لجهلهم، أو لغرض قبيح في نفوسهم.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله واحفظوا جوارحكم، وإن من أولى الجوارح بالحفظ هي جارحة البصر فإنها من أشد الجوارح تأثيراً على القلب الذي عليه مدار الصلاح والفساد فكم من قلب تقي زكي أفسدته نظرة إلى ما حرم الله فصاده بها إبليس وأورده بها الموارد.

وقد حذرنا الله من معاصي الأعين وأخبرنا أنه مطلع عليها ومجاز عليها فقال تعالى {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} وخائنة الأعين هي مسارقتها النظر إلى ما حرم الله على وجه الخفية. وقال تعالى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا وأن يعيذنا من شرورها وأن يستعملنا في طاعته وأن يجنبنا معصيته إنه سميع الدعاء.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك الموحدين اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك وأيده بتأييدك ورازقه البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفق ولي العهد لما فيه رضاك واجعل عمله في هداك. اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنين الأحياء منهم والاموات. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.