مقال منهجُ الدعوة والإصلاح من قول الله جل وعلا: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ﴾ الشيخ حسن آيت علجت

منهجُ الدعوة والإصلاح من قول الله جل وعلا: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ﴾
الإثنين 10 جويلية 2017    الموافق لـ : 15 شوال 1438
0
658

إنَّ الدعوةَ إلى الله تعالى طريقُ الرُّسُل وأتباعِهِم، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين[يوسف:108]، كما أنَّها أحسنُ الأقوال والأحوال التي يكون عليها المؤمن، إذْ قال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين[فُصِّلَت:33].

ومن الآيات التي تناولَتْ هذا الموضوعَ ذَا الأهمِّيَّة البالِغَةِ، قوْلُ الله عز وجل في سورة الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا[الأحزاب:45-46].

وسنقتصر على جُزْءٍ من الآية الثانية وهو قوله تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ، هذه الـجملة التي تضمَّنَتْ المنهج الذي ينبغي أنْ يسلُكَه الدَّاعي، في دعوته إلى الله تعالى، فإلى تفسير هذه الجملة:

أوَّلاً ـ قوله تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى الله:

لأهل التفسير ثلاثة أقوال في معناها، ذكرها الماوردي في تفسيره (3 /383)، ومؤدَّاها كلُّها واحِدٌ وهو إخلاصُ الدِّينِ لله تعالى:

فالأول: قول ابن عباس رضي الله عنه: «إلى شهادة أن لاَّ إله إلا الله»؛ وهي كلمة الإخلاص، كما جاء في حديث عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه مرفوعا: «أصْبَحْنَا على فِطْرَةِ الإسلام، وكَلِمَةِ الإخلاص، ودين نبيِّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ومِلَّةِ أبِينَا إبراهيمَ حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين»(1).

والثاني: قول ابن عيسى:«إلى طاعة الله»، وأصْلُها ما أمَرَ به من الإخلاص، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء[البيِّنة:5]، وقال: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين[الزُّمَر:11].

والثالث: قول النقاش: «إلى الإسلام»، وفيه معنى السَّلامةِ التي هي الإخلاصُ، قال أهلُ اللُّغة(2): سلِمَ لي الشيء الفلانيُّ، أي: خَلُصَ لي، ومن ذلك قولُه تعالى: ﴿وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ[الزُّمَر:29] أي عبدا خالصا لسيِّده، وفي هذا جاء قولُ الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله[النساء:125] أيْ: أخْلَصَ العمل لله وحده لا شريك له، كما قال ابن كثير في «تفسيره» (1 /385).

وهذا الإخلاصُ ينْبَغي أنْ يتحقَّقَ من جهتين: من جهةِ الدَّاعي نفسِه، ومن جهة الأمْرِ المَدْعوِّ إليه.

أمَّا من جهة الدَّاعِي: فبأنْ يكونَ المقصودُ من دعوته تقريبَ النَّاس إلى ربِّهم عز وجل، ابتغاءَ وجْهِ الله تعالى, لا يُريدُ بذلك منهم جزاءً ولا شُكُورًا.

ويُخلُّ بهذا الإخلاص أمران: حُبُّ الريَّاسَةِ، وحُبُّ المال، وقد جَمَعَ بينهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه مرفوعا: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ، بِأفْسَدَ لَها، مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»(3)، وفي رواية أبي هريرة: «مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ جَائِعَانِ بَاتَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ أَغْفَلَهَا أَهْلُهَا، يَفْتَرِسَانِ وَيَأْكُلاَنِ، بِأَسْرَعَ فِيهَا فَسَادًا مِنْ حُبِّ المَالِ وَالشَّرَفِ في دِينِ المَرْءِ المُسْلِمِ»(4)، كما جَمَعَ الله عز وجل بينهما في قوله: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه[الحاقة:28-29]، وذَكَرَ سبحانه مثالَيْنِ لمن ابتُلِيَ بهاتين الفتنتين في سورة القصص:

أمَّا الأوَّلُ: فهو فرعونُ المفتونُ بحُبِّ الريَّاسَةِ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين[القصص:4].

أمَّا الثاني: فهو قارونُ المفتونُ بحُبِّ المال، قال تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِين[القصص:76].

فالفتنة الأولى: هي حُبُّ الشَّرَفِ والريَّاسة: وهي الشهوة الخفيَّة التي حذَّر منها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه مرفوعا: «إنَّ أخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ: الرِّيَاءَ، وَالشَّهْوَةَ الخَفِيَّةَ»(5)، قال الإمام أبو داود السجستاني فيما رواه عنه الخطيب في تاريخه (4/115): «الشَّهْوَةُ الخَفِيَّةُ: حُبُّ الريَّاسة».

وتجِدُ المُبْتلى بهذا الأمر يدْعُو إلى نَفْسِه وتَعْظِيمِها، كما نبَّه على هذا الشيخُ محمَّد بن عبد الوهَّاب في «كتاب التوحيد»، فقال في مَعْرِضِ ذِكْرِ مسائلِ باب: (الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله): «الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأنَّ كثيرا من النَّاس لو دعا إلى الحقِّ، فهو يدعو إلى نفسه».

ونبَّه على هذا أيضًا العَلاَّمةُ عبدُ الرَّحمن السَّعدي في «تفسيره» (ص667) فقال: إنَّ كَوْنَهُ: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى الله يستلزم إخلاصَ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ، لا إلى نفْسِه وتعظيمِها، كما قَدْ يَعْرِضُ ذلك لكثيرٍ من النُّفُوسِ في هذا المقام.

وسبَبُ هذا المرض أمرٌ آخرُ مُهْلِكٌ وهو: العُجْبُ، كما جاء في الحديث المرْوِيِّ عن جماعة من الصحابة من طُرُقٍ يَشُدُّ بعْضُها بَعْضًا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وهَوًى مُتَّبَعٌ، وإِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ»(6).

ومِنْ العلامات الدالَّة على وُجُودِ هذه الآفةِ في الداعي أمورٌ منها:

ـ كثرةُ الكلام عَنْ نَفْسهِ على وَجْهِ الـمُبَاهَاة والتَّعَاظُمِ لغَيْرِ حاجَةٍ تقْتَضيهِ، وذلك سَواءً بِذِكْرِ فضائله وأفْضَالِهِ على الدعوة، أو بذِكْرِ مَنْ عرَفَ من الشيوخ وجَالَسَ من العلماء، وما له من التَّزكيات والإجازات.

نعم! قد يكون ذلك سائغًا إذا احتاج المدرِّس أو المعلِّم إلى ذلك ليطمئنَّ الطالب، وليُوَثِّقَ العِلْمَ الذي عنده بذِكْرِ أصْلِه ومَصْدَرِه، أمَّا الإكثارُ من ذلك والتَّباهي به، فمنافٍ للإخلاص ألْبَتَّة، ولله درُّ الإمامِ الشافعيِّ القائلِ: «وَدِدْتُ أنَّ كُلَّ عِلْمٍ أعْلَمُهُ، يَتعَلَّمُهُ النَّاسُ: أُؤْجَرُ عَلَيْهِ ولا يَحْمَدُونَنِي»، والقائلِ: «وَدِدْتُ أنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هذه الكُتُبَ، ولا يُنْسَبُ إليَّ مِنْهَا شَيْءٌ» رواهما عنه ابن عساكر في «تاريخه» (51 /365).

ـ ومنها: إرادةُ كوْنِ قولِهِ هو المقبولُ حقًّا كان أو باطلاً: وذلك على طريقة: «عَنْزٌ ولو طارَتْ!» بخِلاَفِ الذي يدعو إلى الله فإنَّه لا يريدُ إلاَّ أن يقومَ دينُ الله تعالى، كما أفادَه الشيخ ابن عثيمين في «القول المفيد» (1 /139).

ـ ومنها: طلَبُ عُيُوبِ أقْرَانه وإخوانه، والطَّعْنُ فيهم بالباطل، لينفردَ بالزَّعامَة والرياسة، كما ذكر ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (2 /341) عن أبي بكر الْخَلاَّل أنَّه قَال: «بَلَغَنِي أَنَّ أَحْمَدَ [ابن حنبل] قَالَ لِسُفْيَانَ [ابن عيينة]: حُبُّ الرِّيَاسَةِ أَعْجَبُ إلَى الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَنْ أَحَبَّ الرِّيَاسَةَ طَلَبَ عُيُوبَ النَّاسِ».

وفي الجُمْلَةِ فإنَّ المُبْتلى بحُبِّ الرياسة يطغى عليه قوْلُ: أنا، ونحن، وعندي، ولي، وهذا ممَّا حذَّرَ منه الإمام ابن القيم فقال في «زاد المعاد» (2 /428): «وَلْيُحْذَرْ كُلَّ الْـحَذَرِ مِنْ طُغْيـَانِ: «أَنَـا»، وَ«لِي»، وَ«عِنْدِي»، فَإِنَّ هَذِهِ الأَلْفَاظَ الثَّلاثَةَ ابْتُلِيَ بِهَا إبْلِيسُ، وَفِرْعَـوْنُ، وَقَـارُونُ: ﻓ ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ[ص:76] لإِبْلِيسَ، وَ ﴿لِي مُلْكُ مِصْرَ[الزُّخرُف:51]  لِفِرْعَـوْنَ، و ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي[القصص:78] لِقَارُونَ.

وَأَحْسَنُ مَا وُضِعَتْ «أَنَا» فِي قَوْلِ الْعَبْدِ: أَنَا الْعَبْدُ المُذْنِبُ، المُخْطِئُ، المُسْتَغْفِرُ، المُعْتَرِفُ، وَنَحْوُهُ، و«لِي» فِي قَوْلِهِ: لِيَ الذّنْبُ، وَلِيَ الْجُرْمُ، وَلِيَ المَسْكَنَةُ، وَلِيَ الْفَقْرُ، وَ«عِنْدِي» فِي قَوْلِهِ: «اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلّ ذَلِكَ عِنْدِي(7)»» اهـ.

وقد قيل في هذا المعنى شِعْرٌ:

أرْبَـعَـة ٌ مُـفْـسِـدَة ٌ للعَـبْـدِ        نَـحْــنُ ولِيَ وأنَـا وعِـنْـدِي

ولا سبيـل إلى التخلُّـصِ من هذا المرض العُضالِ إلاَّ بسلوكِ سبيلِ الأنبياء، وكبارِ أولياء الله تعالى من الصحابة ومن سار على هديهم، وذلك بالإزرَاءِ على النفس وكبْح جِمَاحِهَا.

ومن دُرَرِ ِابنِ القيم ما ذَكَرَهُ في مَعْرِضِ الكلام عن تبرئة الله تعالى لأمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنها من قول أهل الإفك، وذلك في كتابه «جِلاَءُ الأفهام» (239 ـ 240) فقال: «وتأمَّلْ هذا التَّشريفَ والإكرامَ النَّاشِئَ عنْ فَرْطِ تـواضُعِهَا واستِصْغَـارِهَا لنفسها حيث قالت: «ولشأنِي في نفسي كانَ أحْقَرَ مِنْ أنْ يتَكَلَّم اللهَُ فيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى، ولكِنْ كُنْتُ أرجو أنْ يرَى رسولُ اللهِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا»(8). فهذه ِصدِّيقَةُ الأمَّة، وأمُّ المؤمنين، وحِبُّ رسولِ الله، وهي تَعْلَمُ أنها بريئةٌ، مظلومةٌ، وأنَّ قاذفيها ظالمون لها، مفترون عليها، قد بَلَغَ أذَاهُم إلى أبَوَيْها، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كانَ احتقارُها لنَفْسِهَا، وتصغيرُها لشَأْنِها، فما ظنُّك بمن صام يوما أو يومين، أو شهرا أو شهرين، وقامَ ليلة أو ليلتين...» إلى أن قال: «وينبغي للعبْدِ أنْ يستعيذَ بالله أنْ يَكُـونَ عِنْدَ نَفْسِهِ عَظِيمًا وهـو عِنْدَ اللهِ حَقِيرٌ» اهـ.

والفتنةُ الثانية هي حُبُّ المال: وذلك أنْ يكونَ في الدَّاعي نوْعٌ من طَلَبِ الأجْرِ على دَعْوَتِه، فإنَّ هذا مِنْ قَبِيلِ أكْلِ الدُّنيا بالدِّين، بل الواجبُ أنْ تكونَ له أسْوَةٌ في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لَمْ يَسْأَلْ على تبْليغِ رِسَالَةِ ربِّه أجْرًا ألبتَّة، بل أجْرُهُ على الله، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين[ص:86]، وقال: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله[سبأ:47]، بل هذا هو دَيْدَنُ سائرِ المرسلين، فقد تكرَّرَ في سورة الشعراء قولُه تعالى حكايةً عن جُمْلَةٍ منهم: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين[الشعراء:109].

وقد ذكر ابن القيِّم عِلاَجًا نافِعًا لهذَيْنِ الدَّاءَيْنِ الدَّوِيَّيْنِ المُهْلِكَيْنِ في كتابه «الفوائد» (ص149) فقال: «لا يجتمع الإخلاصُ ـ في القلْبِ ـ ومَحَبَّةُ المَدْحِ والثَّنَاءِ، والطَّمَعُ فيما عِنْدَ النَّاسِ، إلاَّ كما يجْتَمِعُ الماءُ والنَّارُ، والضَّبُّ والحُوتُ! فإذا حَدَّثَتْكَ نفسُكَ بطَلَبِ الإخْلاَصِ: فأَقْبِـلْ على الطَّمَعِ ـ أوَّلاً ـ فَاذْبَحْهُ بِسِكِّينِ اليَأْسِ، وأقْبِلْ على المَدْحِ والثَّنَاءِ فازْهَدْ فيهِمَا زُهْدَ عُشَّاقِ الدُّنْيَا في الآخِرَةِ، فإذا اسْتَقَامَ لَكَ ذَبْحُ الطَّمَعِ، والزُّهْدُ في الثَّنَاءِ والمَدْحِ: سَهُلَ علَيْكَ الإخْلاَصُ، فإنْ قُلْتَ: وَمَا الَّذِي يُسَهِّلُ عَلَيَّ ذَبْحَ الطَّمَعِ، والزُّهْدَ في الثَّنَاءِ والمَدْحِ؟ قُلْتُ: أمَّا ذَبْحُ الطَّمَعِ، فَيُسَهِّلُهُ عَلَيْكَ: عِلْمُكَ يَقِينًا أنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ يُطْمَعُ فيه إلاَّ وبِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ خَزَائِنُهُ، لاَ يَمْلِكُهَا غَيْرُهُ، وَلاَ يُؤْتِي العَبْدَ مِنْهَا شَيْئًا سِوَاهُ، وأمَّا الزُّهْدُ في الثَّنَاءِ والمَدْحِ، فَيُسَهِّلُهُ عَلَيْكَ: عِلْمُكَ أنَّه لَيْسَ أَحَدٌ يَنْفَعُ مَدْحُهُ ويَزِينُ، ويَضُرُّ ذَمُّهُ ويَشِينُ، إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ، كما قَالَ ذلك الأعْرَابيُّ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مَدْحِي زَيْنٌ، وذَمِّي شَيْنٌ!» فقال صلى الله عليه وسلم: «ذَلِكَ اللهُ عزَّ وجَلَّ!»(9)، فازْهَدْ في مَدْحِ مَنْ لاَ يَزِيـنُكَ مَدْحُهُ، وفي ذَمِّ مَنْ لا يَشِينُكَ ذَمُّهُ، وارْغَبْ فِي مَدْحِ مَنْ كُلُّ الزَّيْنِ في مَدْحِهِ، وكُلُّ الشَّيْنِ فِي ذَمِّهِ، ولَنْ يُقْدَرَ على ذلك إلاَّ بالصَّبْرِ واليَقِينِ، فمَتَى فَقَدْتَ الصَّبْرَ واليَقِينَ، كُنْتَ كَمَنْ أَرَادَ السَّفَرَ في البَحْرِ في غَيْرِ مَرْكَبٍ، قال تعالى:﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُون[الروم:60]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون[السجدة:24]» اﻫ.

وأمَّا من جهة الأمْرِ المدْعُوِّ إليه: فإنَّ أوَّلَ شيءٍ، وأعظَمَ شيْءٍ يتعيَّنُ على الدَّاعي أنْ يدْعُوَ إليه هو: إخلاصُ الدين لله، وإفرادُه بالعبادة، وهذا هو توحيدُ القَصْدِ والطَّلَبِ الذي هو توحيدُ العبادة، أو توحيدُ الألوهية، وهذا هو حقُّ الله على العباد كما جـاء في حديـث معـاذ رضي الله عنه في «الصحيحين» مرفوعا: «حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا»، وهو الأمْرُ الذي بَعَثَ الله به جميعَ أنبيائه ورُسُلِهِ، كما قال عزَّ من قائل:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون[الأنبياء:25]، و به ـ أيضًا ـ بدأ الأنبياءُ دعوةَ أقْوَامِهم, كما ذَكَرَ الله عنهم في غَيْرِ ما مَوْضِعٍ مِنْ كتابِه الكريم قولَهُم: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[المؤمنون:23]، وفي «الصحيحين» عن ابن عبـاس رضي الله عنه أنَّ رسـولَ الله صلى الله عليه وسلم لـمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلى اليمن، قـال: «إنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أوَّلَ مَا تَدْعُوهُم إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إلاَّ الله (وفي رواية: إلى أنْ يُوَحِّدُوا اللهَ)».

ثانيا ـ قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ:  ممَّا ينبغي أنْ يُعْلَمَ أنَّ الإذْنَ في كتاب الله نوعان:  كَوْنِيُّ، وشَرْعِيٌّ.

فالإذْنُ الكوني: هو بِمَعْنَى المَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ، ومِنْه قَوْلُهُ تعالى فِي السِّحْرِ: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله[البقرة:102] فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِلاَّ فَهُوَ لَمْ يُبِحِ السِّحْرَ، وَقَوْلُهُ جل وعلا: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ الله[آل عمران:166] فَالَّذِي أَصَابَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَالْهَزِيمَةِ، كَانَ بمشيئتهِ, وإنْ كان لا يُحبُّه ولا يرضاه.

وَالإذْنُ الشَّرْعِيُّ: وَهوَ بِمَعْنَى الإِبَاحَةِ وَالجَوَاز أو المحبَّة والرِّضا، ومِنْ ذَلِك قَوْلُهُ تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله[الحشر:5] فَإِنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ إبَاحَتَهُ لِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ[البقرة:255] ويتضمَّنُ رضاه عن الشافع والمشفوع له، وَقَوْلُه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله[النساء:64] فهو سبحانه يُحبُّ أنْ يُطَاعَ رُسُلُه ويَرضى بذلك، ومن ذلك أيضا هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ(10).

وقد ذكر المفسرون ثلاثةَ أقوالٍ لهذه اللفظة ذكرها الماوردي في تفسيره (3 /383) ومردُّها كلُّها إلى أمرٍ واحِدٍ أيضا وهو: بما شَرَعَهُ الله تعالى له، أي: إذْنُه الشَّرْعيُّ كما تقدَّم:

فالأول قول ابن عباس رضي الله عنه: «بأمْرِهِ»، وهو ما أمَرَهُ الله به، وشَرَعَه له.

والثاني قول الحسن البصري: «بعِلْمِهِ»، وهو ما أنْزَلَهُ اللهُ تعالى عليه من العِلْمِ.

الثالث قول يحي بن سلام: «بالقرآن»، وهو أصْلُ العِلْمِ الإلهيِّ الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

فيتقرَّرُ من هذا أن الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم داعٍ إلى الله، بإذْنِ الله، لا مِنْ تِلْقاء نفسه، بل بما أنْزَله اللهُ عليه من العِلْمِ والهُدَى والكِتَابِ المُنِيرِ، خِلافَ الذين ذمَّهُمُ الله تعالى وهم صِنْفَانِ(11): صِنْفٌ ابْتَدَعُوا في دين الله، وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله[الشورى:21] ؛  والصِّنْفُ الثاني حرَّمُوا ما أحلَّ اللهُ، وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ الله لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ الله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُون[يونس:59]، ومن هنا استنبط العلماء قاعدة أصولية عظيمة وهي: «الأصْلُ في العِبَادَاتِ الحظْرُ، والأصْلُ في العَادَاتِ الإبَاحَةُ».

وعليه فإنَّ لفظةَ: «بِإذْنِهِ» تضمَّنَتْ توجيها للدَّاعي بِأَنْ يحقِّقَ في دعوتِهِ توحيدَ المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك من جهتين: من جهة وسائل دَعْوَتِه، ومن جهة مقاصِدِها:

أمَّا من جهة الوسائل: فيتعَيَّنُ على الدَّاعي أنْ يُرَاعِيَ في وسائل دعوته أنْ تكونَ مأذُونًا بها من الشارع، سواءً إذْنَ تَنْصِيصٍ أو بدخولها تحت قاعدة عامَّة كالمباح.

وأمَّا من جهة المقاصد: فينْبَغِي على الدَّاعي أن يحْرِصَ على دَعْوَةِ الناس إلى اتِّبَاعِ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وذلك بنَشْرِ ما صحَّ من سُنَّتِهِ، ودعْوَةِ النَّاس للتحاكُمِ إليها، وأن تُتْرَكَ أقوالُ الرِّجَال لها، وعلى النَّهْيِ عَمَّا يُضادُّ هذا الأصْلَ وهو: البِدَعُ والأهواء، والتحْذيرِ منها، وهو من تمام توحيد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه ما ابْتُدِعَتْ بِدْعَةٌ إلاَّ رُفِعَ مِثْلُهَا مِنَ السُّنَّة.

فتبيَّنَ حِينَئَذٍ أنَّ قولَهُ تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ يتضمَّنُ توجيها للدَّاعي أنْ تكونَ دعْوَتُهُ مُؤَسَّسَةً على الأمْرِ بشَيْئيْنِ هما: توحيدُ الإخلاص، وتوحيدُ المُتَابَعَةِ, والتحذيرِ من ضِدَّيْهِما وهما: الشِّرْكُ، والبِدْعَةُ، وهما الأمران اللذان قال فيهما العلاَّمةُ ابن أبي العزِّ في «شرْحِهِ للطَّحاوية» (1 /447): «فَهُمَا تَوْحِيدَانِ لاَ نَجَاةَ لِلْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللهِِ إِلاَّ بِهِمَا: تَوْحِيدُ المُرْسِلِ، وَتَوْحِيدُ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ».

والله تعالى أعلم.

 


(1) صحيح: رواه أحمد وغيره. «الصحيحة» (2989).

(2) انظر: «لسان العرب» لابن منظور (باب: سلم و باب: شكس).

(3) صحيح: رواه الترمذي وابن حبان. «صحيح الترغيب» (1710).

(4) صحيح: رواه الطبراني وغيره. «صحيح الترغيب» (3251).

(5) حسن: رواه الطبراني وأبو نعيم. «الصحيحة» (508).

(6) حسن: رواه البزَّار والبيهقي وغيرهما. «الصحيحة» (1802)

(7) جزء من حديث متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(8) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.

(9)  صحيح:  انظر «صحيح سنن الترمذي» (3267).

(10) انظر «فتاوى ابن تيمية» (11 /267) و(14 /383).

(11) انظر «فتاوى ابن تيمية» (15 /161).

 

* منقول من مجلة الإصلاح «العدد 2 »