بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
إنَّ الإسلام دين جماعةٍ واجتماع، وتآلفٍ وائتلاف، ولأجل تحقيق هذه الغاية والوصول بها إلى أحسن نهاية أمر الله بكل سبب مُعينٍ على إتمامها، ودعا إلى كلِّ ما يكمِّلُها، ونهى عن كل ما يُضادُّها ويفسدها، ومن هذه الأسباب الشَّرعيَّة والطُّرق المرضيَّة والوسائل الرَّبانيَّة: التعاونُ على الخير الَّذي يكون بينهم، ويربط جماعتهم، قال الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب).
هذه الآية آيةٌ جامعة لأصول الاجتماع وأسس التَّعاون، ولأهمِّيَّة موضوعها فإنَّ ابن القيم ـ عليه رحمة الله ـ قد أفردها بمصنَّف خاصٍّ، جمع فيه دررًا وفوائد متعلِّقة بتفسيرها، وبيان شيء من أحكامها، وقد قال رحمه الله في بدايتها: «وقد اشتملت هده الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضًا، وفيما بينهم وبين ربِّهم، فإنَّ كلَّ عبدٍ لا ينفكُّ عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين: واجبٌ بينه وبين الله، وواجبٌ بينه وبين الخلق».
وإنَّنا بإذن الله سنحاول في هذه المقالة أن نجلِّيَ شيئًا يسيرًا من تفسير هذه الآية، مركِّزين على الأصل الأوَّل الَّذي تضمَّنته، وهو التَّعاون على الخير ، وهذا لشدَّة الحاجة إليه.
وسببُ اختيار موضوع المقال في هذا المقام هو ما حصل من اجتماع إخواننا في هذا الصَّرح الدَّعويِّ «موقع التَّصفية والتَّربية»، قاصدين تحقيق أمر ربِّهم وبلوغ آمالهم من خلاله، متعاونين على حمل أعبائه وحسن سيره، كلٌّ بحسب تخصُّصه وجهده وقدرته.
بدأ الله تعالى الآية الكريمة بهذا الأمر الَّذي يفيد الوجوب، ألا وهو التَّعاون الَّذي معناه أن يعين بعضُنا البعضَ الآخر، ولو بسؤاله ذلك، الَّذي هو طلب الإعانة، أو هو الاستعانة الَّتي في أصلها لا تكون إلَّا من الله لقوله تعالى: «وإياك نستعين»، إلَّا أنهَّا جائزة إذا كانت فيما يقدر عليه المخلوق وهو داخل تحت قدرته واستطاعته وكان طلبه من باب التَّرغيب في الخير ليحصل التَّعاون عليه والاجتماع فيه، إذ إن الاجتماع في أيِّ عمل من أعمال الخير مطلوب شرعًا تحقيقًا لقول الله عز وجل: «واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا»، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الجماعة رحمةٌ والفرقة عذاب» [«مسند أحمد» (18449)].
هذا الأصل الَّذي لا يتحقَّق من خلال الآية إلَّا بأمرين اثنين:
الأوَّل: أن يكون على البِرِّ والتَّقوى.
والثَّاني: أنَّه لا يصحُّ إلَّا بترك ضده، وهو التَّعاون على الإثم والعدوان.
أمَّا أنَّه يكون على البِرِّ والتَّقوى فقد قال الحافظ ابن رجب رحمه الله شارحًا قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «البِرُّ حسن الخلق» [رواه مسلم] :«إن البرَّ يطلق باعتبار معنيين: أحدهما: باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم، وربما خص بالإحسان إلى الوالدين، فيقال: بر الوالدين، ويطلق كثيرا على الإحسان إلى الخلق عموما، لذا صنف ابن المبارك كتابا سماه: «كتاب البر والصلة»، ونفس العنوان تجده في بعض كتب السنة مثل «صحيحي البخاري ومسلم»، و«جامع الترمذي» وغيرها، ويتضمَّن هذا الكتاب الإحسان إلى الخلق عمومًا، ويقدم فيه دائمًا بر الوالدين على غيرهم.
وقد بين النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذا كما في [«صحيح مسلم» ( 2548)] من حديث أبي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك» ، ومن هذا المعنى كذلك قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما في [«صحيح البخاري» (2548)] من حديث أبي هريرة: «الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»، وفي [«مسند أحمد» (14482)] أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم سئل عن برِّ الحجِّ، فقال: «إطعام الطعام، وإفشاء السَّلام»، وفي رواية أخرى عند البيهقي في [«الكبرى» (10390)]: «وطيب الكلام»، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول:
بنيَّ إنَّ البرَّ شيءٌ هيِّنُ .... وجه طليق وكلامٌ ليِّنُ
وإذا قرن البر بالتقوى، كما في قوله عز وجل: (وتعاونوا على البر والتقوى) ، فقد يكون المراد بالبر: معاملة الخلق بالإحسان، وبالتقوى: معاملة الحق بفعل طاعته، واجتناب محرَّماته، وقد يكون أريد بالبر: فعل الواجبات، وبالتقوى: اجتناب المحرمات، وقيل: البر متابعة الأمر، والتقوى مجانبة النهي، وقيل: البر: الإسلام، والتقوى: السنة، وكل هذه الأقوال يمكن الجمع بينها على القاعدة في هذا الباب.
والمعنى الثاني للبر: أن يراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة. كقوله عز وجل: «ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون»، وقد روي أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سئل عن الإيمان، فتلا هذه الآية. فالبر بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبه الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر على الأقدار، كالمرض والفقر، وعلى الطاعات، كالصبر عند لقاء العدو» اهـ من [«جامع العلوم والحكم » (٢/٨٤-٨٦)، بتصرُّف].
وأمَّا ما تعلق بالأمر الثَّاني وهو ترك التَّعاون على الإثم والعدوان، الذي هو جماع الشر كما أنَّ البر والتقوى جماع الخير فقال ابن القيِّم رحمه الله:
قال ابن القيِّم رحمه الله كما في «مدارج السَّالكين» (1/281): «كلٌّ منهما إذا أفرد تضمن الآخر، فكل إثم عدوان، إذ هو فعل ما نهى الله عنه، أو ترك ما أمر الله به، فهو عدوان على أمره ونهيه، وكل عدوان إثم، فإنه يأثم به صاحبه، ولكن عند اقترانهما فهما شيئان، بحسب متعلقهما ووصفهما، فالإثم ما كان محرم الجنس، كالكذب والزنا، وشرب الخمر، ونحو ذلك. والعدوان ما كان محرَّم القدر والزيادة، فالعدوان تعدي ما أبيح منه إلى القدر المحرم والزيادة، كالاعتداء في أخذ الحقِّ ممَّن هو عليه».
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله كما في «جامع العلوم والحكم » (٢/٨٤-٨٦): «قد يراد بالإثم: المعاصي، وبالعدوان: ظلم الخلق، وقد يراد به: ما هو محرم في نفسه كالزنى، والسرقة، وشرب الخمر. وبالعدوان: تجاوز ما أذن فيه إلى ما نهي عنه ممَّا جنسه مأذون فيه، كقتل من أبيح قتله لقصاص، ومن لا يباح، وأخذ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها، ومجاوزة الجلد الذي أمر به في الحدود ونحو ذلك، إما بأن يتعدى على ماله، أو بدنه، أو عرضه. فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره، وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه، وإذا قال فيه كلمة فيه أضعافها، فهذا كله عدوان وتعد للعدل».
وممّا تقدَّم ذكره في تفسير الآية الكريمة وذكر أقوال الأئمة فيها نخلص إلى أنَّ كلَّ ما لمخلوق فيه مصلحةٌ في دينه أو ما لا غنى للمرء عنه في دنياه فهو في حكم البِرِّ والتَّقوى، إذا استعان به على أمر الله وحضَّ عليه، وأفضل ما استعمله المرء في دنياه، بعد أداء ما أمره به ربُّه تعالى في نفسه من تعلُّم الاعتقاد الصَّحيح والعمل بأحكام الدِّين، أن يعلِّم النَّاس دينَهم الَّذي له خُلقوا، فيقودهم إلى رضى الله عزَّ وجل، ويخرجهم بلطف خالقهم تعالى من الظُّلمة العمية إلى النور الخالص، ومن الضِّيق المهلك إلى السَّعة الرَّحبة، ثم الحكمُ بالحقِّ، والمنع من الظلم، والذب عن الحوزة بجهاد أهل الحرب والمحاربة والبغي، وإقامة الناس على ما خُلقوا له من الدِّين الَّذي افترضه الله تعالى عليهم، بالدَّعوة إليه وإلى دينه، ثمَّ الإعانة في إحراز ذلك كلِّه، ثمَّ هكذا حتى يبلغ الأمر إلى الصناعات التي لا غنى للناس عنها.
وممَّا يناسب هذا المقام ما ذكره الحميدي في «جذوة المقتبس» (46)عن أبي محمَّد ابن حزم أنَّه سمع ابن الكتَّانيَّ يقول: «إنَّ من العجب من يبقى في العالم دون تعاون على مصلحة؛ أما يرى الحرَّاث يحرث له، والبنَّاء يبني له، والخراز يخرز له؛ وسائر الناس كلٌّ يتولى شغلا له فيه مصلحة وبه إليه ضرورة، أمَا يستحي أن يبقى عيالًا على كلِّ من في العالم، ألا يُعين هو أيضًا بشيءٍ من المصلحة»، قال ابن حزمٍ معلِّقا: «ولعمري إنَّ كلامه هذا لصحيح حسن، وقد نبَّه الله تعالى عليه بقوله: «وتعاونوا على البر والتقوى»، فكلُّ ما لمخلوق فيه مصلحة في دينه أو فيما لا غنى به عنه في دنياه، فهو برٌّ وتقوى».
ومن خلال ما تقدَّم نعلم أنَّ الجماعة المجتمعة على الحقِّ وعلى السُّنَّة وما كان عليه سلف هذه الأمَّة هي أسعد النَّاس بتحقيق ما تضمَّنته الآية الكريمة، ومنهجها وسبيلها هو العلاج الوحيد النَّاجع لمرض الفرقة، ولأجل ذلك فإنَّها دائمًا تقترن بأهل السُّنَّة والجماعة، فالسَّلفيَّة تجميعٌ على الحقِّ، وليست تجميعًا على حساب الحقِّ.
كثيرٌ من النَّاس يتألَّمون لفرقة المسلمين، ويتباكَون على ذلك، لكنَّهم غافلون معرضون، لا ينهجون المنهج النَّبويَّ في التَّجميع، بل إنَّ غالبهم يكون تجميعهم على حساب الحقِّ، على القاعدة الحزبيَّة: «جمِّع ثمَّ ثقِّف»، حتَّى برَّر بعضُ من يظهر ويدَّعي السَّلفية العملَ في الجمعيَّات الَّتي على رأسها كلُّ منحرفٍ خلفيٍّ في عقيدته ومنهجه، بل بعضُهم أعدى أعداء السَّلفيِّين في بلدنا، يُظهر ذلك في لقاءاته ومقالاته، وهذا الأمر مخالفةٌ لمضمون ما جاء في معنى الآية الكريمة، وما عليه علماؤنا من النَّكير على مسايرة وعدم البراءة من المبتدعين الَّذين يفسدون ولا يصلحون، أصلهم في ذلك قاعدة: «ثقِّف ثمَّ جمِّع» الَّتي كثيرًا ما كنَّا نسمع العلامة الألبانيَّ رحمه الله يدندن حولها، ويدعو السَّلفيِّين إلى السَّير تحت ظلالها.
وأسوأُ من القاعدة الحزبيَّة السَّابقة القاعدةُ الإخوانيَّة الَّتي بذروها في الأمَّة، ويسعى من ينتسب إلى السَّلفية من أمثال عبد الرَّحمن عبد الخالق وأبي الحسن المصري ومن يوافقهما ويدافع عن خبيث أفكارهما، وينشر هذا بين أبنائنا كالحلبيِّ المفتون وعرعور المهرِّج ومن دار في فلكَيهما من المدافعين والملبِّسين والمميِّعين إلى سَقْيِ هذه البذرة ورعايتها: «نتعاون فيما اتَّفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه».
فهل نعذر الشِّيعة في اعتقادهم بتحريف القرآن؟! وردِّهم لسنَّة خير الأنام؟! وطعنهم في الصَّحب الكرام؟!
هل نعذر الخوارج بتكفيرهم الصَّحابة؟! وخروجهم على جماعة المسلمين وتفنِّنهم في سفك دمائهم؟!
أم نعذر من يغضُّ الطَّرف عن أهل الأهواء، ويجد لهم المبرِّرات، ويصف كتبهم بأجمل الأوصاف، ومن أسوأ ما وقفت عليه من ذلك ثناء بعضهم على كتاب «منهج السلف الصالح في ترجيح المصالح وتطويح المفاسد والقبائح»، وعلى «نصيحة الرحيلي» وما فيهما من التَّأصيل لهذا المنهج الفاسد.
إنَّ نقد هذه القاعدة الإخوانية الباطلة لا بدَّ منه وأن يكون نقدًا علميًّا كنقد علمائنا، ونقدًا عمليًا بمجانبة المنحرفين والبعد عنهم، بل وتحذير النَّاس من شرِّهم وانحرافهم.
قال الشَّيخ صالح الفوزان منتقدًا هذه القاعدة والدُّعاة الَّذين يزهِّدون في الدَّعوة إلى التَّوحيد بقوله: «يستدلُّون بالقاعدة الذَّهبيَّة عندهم، وهي في حقيقتها قاعدة طاغوتيَّة...» [صوتيَّة له على الشَّبكة].
أمَّا الَّذي يدَّعي السَّلفية وهو يردُّ الحقَّ أو يتهكَّم بأهله كذلك المفتون عائض القرني الَّذي يقول: «نتعاون فيما اتَّفقنا فيه، ويكسر بعضنا رأس بعض فيما اختلفنا فيه»! والواقع أنَّ هذا تعبيرُ مازحٍ عن واقعٍ لا شكَّ فيه في أوضاع المسلمين مع الجمعيَّات الَّتي تجمع في صفوفها كلَّ منحرفٍ ومخرِّفٍ وعدوٍّ معلنٍ عداوَته لأهل الحقِّ، فهذا ملبِّس يجب فضحه ودفعه حتَّى لا ينخدع به النَّاس، وإن ادَّعى لنفسه ما ادَّعى، أو لمَّعه أتباعه ورفعوه، فهذا ما عرف السَّلفيَّة بعدُ، ناهيك أن يكون من دعاتها أو مشايخها، فالسَّلفية تجمع على الحقِّ، فـ«التَّجميع» شبه كلمة «الجماعة»، «على الحقِّ» شبه كلمة «السُّنَّة»، فهم أهل السُّنَّة والجماعة، تجمَّعوا على الحقِّ، وليس تجمعيهم على حساب الحقِّ.
ربَّما يعترض علينا خصومنا ويتَّهموننا بشتَّى التُّهم ( إقصاء، غلوّ، شدَّة...)، فلا يهمُّنا قولهم فينا، ولا حكمهم علينا، فالحقُّ بيننا، ندعوا إليه، وندعوهم للتَّحاكم إليه، وحسبنا الله ونعم الوكيل.