مقال تَشْنيفُ الآذان بتقويم اللِّسان الشيخ نجيب جلواح

تَشْنيفُ الآذان بتقويم اللِّسان
الأربعاء 12 جويلية 2017    الموافق لـ : 17 شوال 1438

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على النَّبيِّ الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ:
فقد اختصَّتِ اللُّغةُ العربيَّةُ بخصائصَ عديدةٍ، ولها مِيزاتٌ كثيرةٌ، وإنَّ مِن أعظمِ ما اختصَّـتْ به أنَّ اللهَ –تعالى– أنزلَ بها خيرَ كُتُبِهِ وأحسنَ شرائعِ دينِهِ، فهي لغةُ القرآنِ الكريمِ، قالَ اللهُ –تعالى–: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسـف: 2]، و قالَ أيضًا: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزُّمر: 27- 28]، وقالَ: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فُصِّلَت: 3]، وقالَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشُّورى: 7].
فارتباطُ الإسلامِ باللٌّغةِ العربيَّةِ ارتباطٌ متينٌ، لذا لا يمكنُ فصْلُ العربيَّةِ عن الدِّينِ، لأنَّ القرآنَ الكريمَ نزلَ بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، وسنّةُ نبيِّ الإسلامِ ﷺ لا تُفْهَمُ ولا يُدركُ ما فيها مِن أحكامٍ إلاَّ باللُّغةِ العربيّةَِ. والإلمامُ باللُّغةِ العربيَّةِ وإتقانُها، والتَّعمُّق في معرفةِ معانيها، والتَّبحُّر في إدراكِ مبانيها وأساليبها مِن أبرزِ أسبابِ صِحَّةِ فهْم المسلمِ لدينِ اللهِ –تعالى– ؛ وذلك لأنَّ ممَّا يُتوصَّلُ به إلى إدراكِ معاني النُّصوصِ: فَهْمُ العِباراتِ على ما وُضِعتْ له في أصلِها اللُّغويِّ، لا بحسبِ ما يُمليهِ العقلُ وحدَهُ، ولذلك كانتْ معرفةُ اللُّغةِ العربيَّةِ مِن شروطِ الاجتهادِ، وكان الجهلُ بها سبباً للْهَلَكَةِ.
وإنَّ مِن العلومِ النَّافعةِ المتعدِّيةِ إلى غيرها: عِلْمَ النّحْوِ، فهو أُسُّ العُلومِ الشَّرعيَّةِ، وأصلٌ مِن أُصولها، فَبِهِ تُعرفُ مـدارِكُ الأحكامِ، وبِهِ يَستقيمُ اللِّسانُ والبَنانُ – ُطقًا وخطًّا–. لذا يَنبغي لمن يريدُ التَّفقُّهَ في الدِّيـنِ، أنْ يُقدِّمَ على ذلك تعلُّـمَ العلومِ العربيَّةِ وعلمِ النَّحوِ.
وللهِ درُّ القائلِ:

النَّحوُ يُصلِحُ مِنَ لِسانِ الألْكَنِ    والمـرءُ تُكـرِمُــهُ إذا لـمْ يَـلْـحَـنِ      
والنَّـحـوُ مِثـلُ المِلـحِ إنْ ألقيتَـهُ    في كلِّ ضدٍّ مِن طعامِكَ يحسُنِ      
وإذا طلـبـتَ مِنَ العُـلومِ أجلَّهـا    فأجلـُّـهـا مـنـها مُـقـيـمُ الألسُنِ    
وقدْ «هجمَ الفسادُ على اللِّسانِ، وخالطتِ الإساءةُ الإحسانَ، ودخلتْ لغةَ العربِ، فلم تَزلْ كلَّ يومٍ تنهدمُ أركانُهـا، وتموتُ فُرسانُهَا، حتَّى استُبيحَ حريمُهَا، وهَجُنَ صَميمُهَا، وعفَّتْ آثارُهَا، وطَفِئَتْ أنوارُهَا، وصارَ كثيرٌ مِن النَّاسِ يُخطِئُونَ وهم يَحسبونَ أنَّهم مُصيبونَ، وباتتِ الحاجةُ ماسَّةً إلى تحفيزِ الهِممِ إلى تقويمِ اللِّسانِ، وإصلاحِ اعوجاجِـهِ بِطلبِ العربيَّةِ، وفَهمِهَا وإتقانِهَا.»
إنَّنا نشكُو – في هذه الأيَّامِ، وأكثرَ مِن أيِّ وقتٍ مضَى –، منَ الضَّعفِ العامِّ في اللُّغةِ العربيَّةِ، ونتألَّمُ ألمًا شديدًا منَ الوضعِ المؤسفِ الَّذي وصلتْ إليه لغتُنا وعلى أيدي أبنائِها، ونتوجَّسُ خِيفةً من خطرِ هذا الضَّعفِ الذي يزدادُ مـع مرورِ الأيَّامِ، ولو استمرَّ هذا الضَّعفُ في اللُّغةِ العربيَّةِ مِن غيرِ عِلاجٍ لأدَّى إلى استفحالِه، ثمَّ ينتهي الأمرُ بموتِ اللُّغةِ والقضاءِ عليها.
وإذا أُصِبنا بضعفٍ في لغتنا ضَعُفَتْ صِلتُنا بديننا، لأنَّنا نكون – حينئذٍ – قد فقَدنا أداةَ الاغترافِ مِن معينِهِ الصَّافي، ولهذا فإنَّ تقصيرَنا في حقِّ هذه اللُّغةِ تفريطٌ منَّا نُسألُ عنه ونُدانُ به.
نَعَم، إنَّهُ لَمِنَ المُؤسِفِ جدًّا أنْ ترى – في هذا الزَّمانِ – بعضَ طلبةِ العلمِ حينمـا يتكلَّمُ أو يكتبُ، تَجِدُ عنده مِـن الخطإِ واللَّحنِ ما تكادُ تقولُ: إنَّهُ في أوَّلِ الدّراسةِ، مع أنَّهُ قد يكونُ ممَّن حازَ الشَّهاداتِ العاليةَ. كما قد تَسمعُ مِن بعضِهم خِطاباً في موضوعٍ ذِي أهميَّةٍ، لكنْ يُزهِّدُكَ فيه، ويَصرِفُكَ عن سماعهِ، والاستفادةِ منه ما شوّهه مِـنْ لحنٍ وتصحِيفٍ، فتسمعُه يرفعُ ما حقُّهُ النَّصبُ، ويجرُّ ما حقُّهُ الرَّفعُ، فتنقلبُ الأُمورُ على السَّامعِ، ويَفهمُ مِن كلامِهِ خِلافَ مُرادِه ؛ وهذه – واللهِ– مِحنةٌ. لهذا يَتعيَّنُ على الطَّلبةِ أنْ يَتعلَّمُوا النَّحـوَ، وأن يُمَرِّنُوا ألسنتَهُمْ وأقلامَهُمْ عليه حتَّى لا تَسُوءَ سُمعتُهمْ بين النِّاس، ويَسقطَ قدرُهم، ويُوصَفوا بالجهلِ.
قالَ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ -رحمه الله-: «اللَّحنُ في الكلامِ أقبحُ مِن آثارِ الجُدَرِيِّ في الوجهِ.»
وما أحسنَ ما قيلَ:
 
ولا تَعْدُ إصـلاحَ اللِّـسانِ فإنَّـهُ    يُـخَـبـِّــر عـمـَّا عــنــده ويُــبــيِّـنُ      
ويُعجِبُنـي زَيُّ الفَـتى وجمـالُه    فيَسقُطُ مِن عَيْني ساعةَ يَلْحَنُ  
واللَّحنُ ضررُهُ وَخِيمٌ، وخَطْبُهُ جسيمٌ ؛ فقد يؤدِّي بِصاحبِه إلى الكذبِ على اللهِ –تعالى– ورسولِه ﷺ، والتَّقَوُّلِ عليهما ؛ وكفَى بذلك جُرماً عظيماً وإثماً مُبيناً ؛ روى أبُو حاتمِ محمَّدُ بنُ حِبَّانَ البُسْتي عن الأصْمَعي أنَّه قالَ: «إنَّ أخوفَ ما أخافُ علـى طالبِ العلمِ إذا لم يَعرفْ النَّحوَ أنْ يَدْخُلَ فيما قالَ النَّبيُّ ﷺ: «مَن كذبَ عليَّ مُتعمِّدًا فليتبوَّأْ مقعدَهُ منَ النَّارِ»، لأنَّهُ ﷺ لم يكنْ لحَّانًا، ولم يلحَنْ في حديثِهِ، فمهْمَا رَويتَ عنه ولحنتَ فيه، فقد كَذبتَ عليه.»
وصاحبُ اللَّحْنِ يُدخِلُ في الكتابِ و السُّنَّةِ ما ليسَ فيهما، ويُخرِجُ منهما ما هو فيهما، بخلافِ الفصيحِ، فإنَّه يقرأُ القرآنَ دون لحنٍ، فيُقِيمُ حُروفَهُ وحُدودَهُ، لذا كانَ أفضلَ حـالًا وأرْفعَ شأنًا ؛ فعنْ سَلْمِ بنِ قُتَيْبَةَ قـال: «كنتُ عندَ ابنِ هُبَيْرَةَ الأكبرِ فجرَى الحديثُ حتَّى جرَى ذِكرُ العربيَّةِ فقال: واللهِ ما استوَى رَجُلانِ دينهُما واحدٌ، و حَسَبُهما واحدٌ، ومُروءتُهما واحدةٌ، أحدُهما يَلْحنُ والآخرُ لا يَلْحنُ، إنَّ أفضلَهُما في الدُّنيا والآخرةِ الَّذي لا يَلْحـنُ، قُلتُ: أصلحَ اللهُ الأميرَ، هذا أفضلُ في الدُّنيا لِفضلِ فصاحتِهِ وعَربيَّتِهِ، أرأيتَ الآخرةَ ما بالُهُ فُضِّل فيها ؟ قـالَ: إنَّهُ يقـرأُ كتابَ اللهِ على ما أنزلَهُ اللهُ، وإنَّ الذي يَلْحنُ يحمِلُهُ لحنُهُ على أنْ يُدخِلَ في كتابِ اللهِ – تعالى – ما ليسَ فيه، ويُخرِجَ منه ما هو فيهِ. قالَ: قلتُ: صـدقَ الأميرُ وبرَّ.»
وأكثرُ مَن ضلَّ مِن أصحابِ الفِرقِ المنحرفةِ، ومَن زاغَ من المبتدعةِ وأهلِ الأهواءِ، إنَّما أُتوا من جهلِهـم باللُّغةِ العربيَّةِ ؛ ففسَّروا النُّصوصَ تبعًا لأهوائِهم، وف%h~Sg݅PGE