الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمساجدُ خير بقاع الأرض، و«أَحَبُّ البِلاَدِ إِلَى اللهِ»(١)، كما ثبت في الحديث، فهي بيوت الله يفرد فيها سبحانه بالعبادة، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، وهي تحقِّق للمؤمن هذه الغايةَ العظيمةَ من إخلاص العبادة لله تعالى وتوحيده، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(٢)﴾ [الذاريات: 56]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [التوبة: 31].
لذلك كانت المساجد مجامعَ الأُمَّة في الصلوات والجُمع والأعياد والكسوفِ والتراويح وبقيةِ السنن والنوافل، وملتقى الأئمَّة، ومدارسَ علمٍ تَخَرَّجَ منها العلماء والقادة من السلف الصالح، فالحاصل: أنَّ المسجد في القرون المفضَّلة قد أدَّى رسالتَه الإيمانيةَ على أكمل وجهٍ وأتمِّ قيامٍ، فكان المسجدُ محلاًّ للصلاة والدعوة إلى الله ونشر العلم والدِّين، ومنبرًا للوعظ والإرشاد، ودارًا للفتوى، ومحكمةً للقضاء، ورباطًا يأوي إليه أهل الاحتياج، ومنطلقًا لجيوش الفتح، وأغلب شؤون المسلمين كانت من وظائف المسجد، والمساجد تتفاضل بحَسَب ما جعل الله لبعضها من مَنْزِلةٍ ومكانةٍ، كما هو الشأن بالنسبة للمساجد الثلاثة (المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ومسجد الأقصى)، أو بحسب إشعاعه الإيماني والعلمي والتربوي المتولد عن مجالس الذِّكر وقراءة القرآن والاجتماعِ لتدارسه، وتلقي الدروس والمواعظ فيه، وتحصيل فضل حلقات العلم ومجالس الإيمان، وقد أثنى الله تعالى على عُمَّار بيوت الله بقوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18].
فهذه الرسالةُ الإيمانيةُ الجليلةُ في عمارة المسجد منبثقة من خصائص الإسلام ومثاليته وواقعيته، الذي برأه الله عز وجل من الثنائيات التي شقي بها غير المسلمين، فانتفى فيها الصراع بين الدين والدنيا، الأمر الذي يملأ قلب المؤمن عزًّا بالإسلام ويكسر قلوب أعداء الله تعالى.
غير أنَّ الناظر المتأمِّل في أحوال مساجد بلادنا يدرك في -جملة واقعها- انحسار رسالة المسجد الإيمانية وتحويل وجهتها بل وغاياتها في العبودية الخالصة، كما هو حال بعض المعابد. وغياب الأخوة الإيمانية الصادقة نتيجة الصراع الفكري والعقدي والدعوي فلا يلتقي في المسجد الواحد أهل الأهواء والفرقة مع أهل الاجتماع والاتباع على حب الله وطاعته بما أمر وزجر، والتعاون على البر والتقوى، فَهُم في حقيقة الأمر إخوان العلانية أعداء السريرة.
وبسبب حلول الحمية الجاهلية والحزبية الممقوتة محلَّ الأخوة الإيمانية -بالتمكين لها-، وعدم تفهُّمهم لأهمية المسجد ورسالته ظهرت في أهل الفُرقة سمات الأنانية وأبعادها البغيضة من التنافس على ممتلكات المساجد والأوقاف، واستغلالها لحظوظ أهل المصالح الخاصة، وتحويل بعض مرافقها إلى قاعات لتعليم الخياطة والطرز وتعليم الكمبيوتر، كما هو حال بعض المساجد، واتخاذ الدش والمقعرات الهوائية في سكنات الأئمة التابعة للمساجد والأوقاف، وتجميد مجالس العلم والإيمان بإقصاء دعاة التوحيد والإصلاح، وإعادة إحياء محدثات الأمور، وصرف الهمة إلى زخرفة المساجد وتزويقها والتباهي بها، وغير ذلك ممَّا يُعلم أو يخفى على الناس فأماتوا مُعظم مهام المساجد ووظائفه الشاملة.. والله المستعان.
وهذا غيضٌ من فيضٍ، وليس هو بيت القصيد الذي أنشده بهذه الكلمة، وإنما أقصد عيِّنَة من الصراع الدائر بين الفريقين ذات صلة بالمساجد المنحرفة انحرافًا فاحشًا عن قبلة المسلمين أو المستديرة عنها، وقف فيه أهل الفرقة مواقف جاهلية: من الجمود على الباطل وعدم الإصغاء إلى حجة المخالف والحرص على عدم استقرار المساجد في عبادة جماعية لا ينبغي الاختلاف فيها، فهذه المسألة هالت القوم وأهاجت، فحدثت فتن وتعصُّبات في معظم المساجد المعنية بهذا الانحراف والميل الشديد عن قبلة المسلمين فهجر بعضهم هذه المساجد، وعامَّتهم لا تكترث لغلبة الجهل، حتى إنهم ليولون أمر دينهم إلى من لا يهتم بدينه، فضاعت الأمانة بسبب إسنادها إلى العاجزين عن تحملها وغير القادرين على تسييرها والمحافظة عليها، وإلى الله المشتكى.
هذا، وتجليةً لمسألة قبلة المسلمين وما يستتبعها من استثناءاتٍ وجزئياتٍ فقهيةٍ التي وقع فيها الخلاف من حيث معرفةُ الواجب في استقبالها وفي تحديد مقدار الجهة وضابط الانحراف اليسير ونحو ذلك من المسائل الفرعية، أضعها بين يدي المنصف العدل -تبرئةً للذِّمة ورجاءَ تحقيق الأُلفة- فأقول -مستعينًا بالله تعالى-:
لا خلاف بين العلماء على أنَّ استقبال القِبلة شرط في صحة الصلاة(٣)، وقبلةُ المسلمين هي الكعبة المشرَّفة، ولزوم التوجُّه إليها بالصلاة من مقتضيات قول الله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144]، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم إذا قام إلى الصلاة استقبل الكعبةَ في الفرض والنفل، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول للمسيء صلاته: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ»(٤).
ولا يسقط استقبال القبلة عن المصلي إلاَّ مِنْ عَجْزٍ: كالمريض الذي لا يقدر على الحركة والمكرَه والعاجز لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، ولقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(٥).
أو مِن ضرورةٍ: كشدة الخوف من العدو أو عند التحام الصفين للقتال، ويشهد له قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا﴾ [البقرة: 238-239]، ويوضِّح الآية حديث ابن عمر رضي الله عنهما في صلاة الخوف بقوله: «..فإن كان خوفٌ هو أشدَّ من ذلكَ صَلَّوا رجالاً قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها»(٦).
أو مِن اجتهادٍ: كمَن خفيت عليه القبلة فاجتهد ثمَّ تبيَّن خَطَؤُه بعد فراغه من الصلاة، فإنَّ صلاته صحيحةٌ ولا إعادة عليه، لحديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ القِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 115]»(٧).
أمَّا إذا تبيَّن له خطؤُه أثناء الصلاة فالواجب أن يستديرَ إليها في الصلاة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جاءهم آتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا»، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ»(٨)، ففيه دليل على أنَّ ما صلَّوْه اتجاه الشام لا تأثير له لعدم حصول العلم فيه باستقبال القبلة.
والمعلوم -أيضًا- أنه لا فرق بين صلاة الفريضة والنفل في استقبال القبلة(٩)، إلاَّ أنه يُستثنى من التطوع صلاة الراكب لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ أَنْمَارٍ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا قِبَلَ الْمَشْرِقِ مُتَطَوِّعًا»(١٠)، وعنه رضي الله عنهما: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ، فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ»(١١).
هذا، وإذا كان المصلي يرى الكعبة ففرضه أن يستقبل عين الكعبة لأنها الأصل، ويدخل في ذلك مَن أخبره ثقة في مكة أو نحوها بجهة عينها بيقين، ومن لم يكن مشاهدًا للكعبة ففرضه جهة القبلة، وتتسع الجهة في حق المصلي بالبعد عن مكة، إذ كلّما تباعدت الدائرة عمّت واتسعت، ودليل استقبال جهة الكعبة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا بِبَوْلٍ وَلاَ غَائِطٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»(١٢)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ»(١٣)، فهذا الحديث والذي قبله يدلان على أنّ الفرض استقبالُ الجهة لا العينِ في حقِّ من تعذَّرت عليه العين، ذلك لأنّ المعاين لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب نظرًا لقربه من الكعبة، بل كلُّ الجهات في حقِّه سواء متى قابل العين أو الشطر، ولو كان الواجب إصابة العين لما صحَّت صلاةُ أهل الصف الطويل عن خط مستو، والصلاةُ بهذه الصورة تصحُّ اتفاقًا، قال ابنُ رشدٍ -رحمه الله-: «واتفاقُ المسلمين على الصفِّ الطويل خارج الكعبة يدلُّ على أنَّ الفرض ليس هو العين -أعني إذا لم تكن الكعبة مبصرة-»(١٤)، وقال البهوتي -رحمه الله-: «ولانعقادِ الإجماعِ على صحّة الاثنين المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة، وعلى صحّة صلاة الصفِّ الطويل على خط مستو»(١٥)، وقال الصنعاني -رحمه الله-: «فالحقُّ أنَّ الجهة كافيةٌ ولو لمن كان في مكةَ وما يليها»(١٦)، والحديث دلّ -أيضًا- على أنَّ كلَّ ما بين المشرق والمغرب يُعدُّ قبلةً لأهلِ المدينة وما وافق قبلتها وجرى مجراها، أمَّا بقية الأقطار والبلدان فتختلف جهتُها بحسب موقعها الجغرافي، فإن كانت عن الكعبة غربًا أو شرقًا كانت القبلة ما بين الشمالِ والجنوبِ، وإن كانت عن الكعبة جنوبًا أو شمالاً صارت القبلة في حقِّه ما بين المشرق والمغرب، وقد تقع القبلة لبعض البلدان في الجنوب الشرقي وفي الجنوب الغربي فتكون جهتهم ما بين الجنوب والشرق أو ما بين الجنوب والغربِ، ولبعض البلدان الأخرى تقع القبلةُ في الشمال الشرقي أو في الشمال الغربي فتكون جهتهم ما بين الشمال والشرق أو ما بين الشمال والغرب، لأنَّ الفرض في كلِّ ذلك استقبالُ القبلة.
هذا، ويجوز الاستعانة على معرفةِ القبلةِ بالدلالاتِ الكونيةِ، حيث تُعْرَفُ القبلةُ ليلاً بطلوعِ القمر وغروبه، وبالقطب الشمالي وغيره من النجوم، وفي النهار بطلوع الشمس وغروبها، لقوله تعالى: ﴿وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: 16].
قال النووي في معرض الاستدلال على الاستعانة بالشمس والقمر والجبال والرياح في معرفة القبلة: «ولا يصح إلا بأدلة القبلة -وهي كثيرة وفيها كتب مصنّفة- وأضعفها الرياح لاختلافها، وأقواها القطب»(١٧)، وقال الإمام أحمد عن تعلّم النجوم لمعرفة القبلة والطريق: «ما أحسن تعلّمها! وأثبتُها القطب»(١٨).
ولا مانع شرعًا من الاستعانة بالأجهزة والآلات الفلكية الحديثةِ في تعيين القبلة أو في ضبط جهتها إذا ثبتت فعاليتها عند أهل الاختصاص والمعرفة الفلكية من المسلمين، وقد تصل الاستعانة بالدلائل الكونية والأدوات الحديثة إلى حدِّ الوجوب إذا لم يجد دليلاً سواها. قال ابن عبد البر -رحمه الله-: «أن تكون الكعبةُ بحيث لا يراها فيلزمه التوجه نحوها، وتلقاؤُها بالدلائل، وهي: الشمس والقمر والنجوم والرياح، وكلّ ما يمكن به معرفة جهتها»(١٩).
وإذا كان ما بين المشرق والمغرب قبلة فعلى المصلي أن يتحرى الوسط كما نقل عن أحمد وغيره(٢٠)، والانحرافُ اليسير عن جهة اليمين أو اليسار لا يضرُّ كما قرّره أهل العلم، قال ابن عبد البر -رحمه الله-: «وأما من تيامن أو تياسر مجتهدًا فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره»(٢١)، وقال البهوتي -رحمه الله-: «ويعفى عن انحرافٍ يسيرٍ يمنةً أو يسرةً للخبر، وإصابةُ العين بالاجتهاد متعذِّرة فسقطت وأقيمت الجهة مقامها للضرورة»(٢٢)، وضابط الانحراف اليسير يرجع تحديده إلى عرف الناس بالنظر إلى عدم ورود تحديدٍ له في الشرع، وعرفُ الناس يقضي بأنَّ كلَّ ميل عن القبلة لا يصيِّر الكعبةَ عن يمينه أو شماله بل يبقى مقابلاً لها لجهتها فهو من اليسير، وبهذا الاعتبار يمكن تعداد ما دون نصف الزاوية القائمة يمينا أو شمالاً كأقصى درجة اليسير ما دامت الكعبة تلقاء وجهه، وأمَّا زيادة الانحراف عن نصف الزاوية القائمة يمينًا أو شمالاً فإنه انحراف كبيرٌ وفاحشٌ يُخْرِجُ المصليَ عن كونه مستقبِلَ الكعبةِ، بل الكعبة تصير في حَقِّه جهة يمينه أو شماله، الأمر الذي يُخِلُّ بشرطية استقبال القبلة، فتبطل الصلاة -إن علم- لتخلُّف شرطها وتجب الإعادة في الوقت، وهذا عند عامة الفقهاء وعليه مذهب المالكية أيضًا، ومن نصوصهم:
- قال في «تهذيب المدونة»: «ومن علم -وهو في الصلاة- أنه قد استدبر القبلة أو شرّق أو غرّب قطع وابتدأ الصلاة بإقامة(٢٣).. وإن عَلِم في الصلاة أنه انحرف يسيرًا فلينحرف إلى القبلة ويبني»(٢٤).
- وقال الدردير -رحمه الله-: «أمَّا لو صلى إلى جهة اجتهاده فتبيَّن خطؤه فإنه يعيد في الوقت إن استدبر أو شرَّق أو غرَّب –كما في المدونة– لا إن انحرف يسيرًا»(٢٥).
- وقال الصاوي -رحمه الله-: «فإن لم يستقبلها الأعمى المنحرف كثيرًا بعد العلم بَطَلت، لأنَّ الانحراف الكثير مبطل مع العلم سواء علم به حين الدخول أو علم به بعد دخولها، وأمَّا المنحرف يسيرًا أعمى أو بصيرًا إذا لم يستقبل لا تبطل صلاته»(٢٦).
قلت: والانحراف اليسير -وإن صحت به الصلاة الماضية ولا إعادة عليه- إلاَّ أنه لا يجوز تعمُّد هذا الانحراف إذا ما أمكن تعديله، فالواجب استقبال القبلة المعلومة وتعديل الصفوف اتجاهها عملاً بالنصوص الشرعية المتقدمة في استقبال القبلة، وما تقدم من أقوال بعض فقهاء المذاهب.
هذا، وإن بُني المسجد على ميلٍ كثيرٍ عن القبلة وانحرافٍ مُضِرٍّ فلا يشفع في تصحيح الصلاة استدارة الإمام بمفرده نحو القِبلة دون بقية المأمومين؛ لأنَّ الإمام لا يتحمَّل عن المأموم الشرط ولا تعمُّد ترك الواجب.
وأخيرًا، فعلى المشرفين على المساجد ذات الانحراف الظاهر والمسئولين المباشرين ومن فوقهم أن يتَّقوا اللهَ في صلاة المسلمين وقبلتهم، فالاختلاف في هذه المسائل بعد معرفة الحقِّ مذموم في شريعة الإسلام، فالواجب التخلص منه، فهو ليس من الله، كما قال تعالى في حق القرآن: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، بل الاختلاف من أسباب ضعف الأمة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]، وفي معرض توضيح الاختلاف المذموم شرعًا يقول ابن حزم -رحمه الله- بما نصَّه: «وإنما الذمُّ المذكور والوعيد الموصوف لمن ترك التعلُّق بحبل الله تعالى وهو القرآن وكلام النبي صَلَّى الله عليه وآله وسلم بعد بلوغ النصّ إليه وقيام الحُجَّة به عليه، وتعلق بفلان وفلان مقلدًا عامدًا للاختلاف داعيًا إلى عصبية وحمية الجاهلية قاصدًا للفرقة متحرِّيًا في دعواه برد القرآن والسُّنة إليها فإن وافقها النص أخذ به وإن خالفها تعلَّق بجاهليته وترك القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهؤلاء هم المختلفون المذمومون وطبقة أخرى، وهم قوم بلغت بهم رقة الدِّين وقِلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كلِّ قائلٍ فهم يأخذون ما كان رخصةً من قول كلِّ عالم مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النصُّ عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وآله سلم»(٢٧)، كما أنَّ على المشرفين والمسئولين المباشرين أن يحافظوا على عمارة مساجد الله بتحقيق العدة الإيمانية، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18]، وأن يرتفعوا عن التلبيس على الناس بفتاوى جائرة تجيز الصلاة بالانحراف الفاحش عن القبلة ويصدوا المؤمنين عن أمر ربهم بإصلاح مساجدهم من الفساد وتصويب خطئهم عن القبلة بتقويم الانحراف على وجه يصحّح صلواتهم، وأن لا يمنعوا الدعاة من أهل السنة عن الصدع بالحق فيها ونشر دعوة التوحيد، فإن مَنْعَ المساجد من العدة الإيمانية من أعظم الذنوب، وهو من عمل أعداء الإسلام والدين، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 114]، و«العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، وعليهم أن لا يعطّلوا رسالة المسجد الإيمانية ولا يقطعوا سبيل الدعوة إلى الله، وألاّ يقفوا في محاربة الله، فإن من حاربه الله هلك.
قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ. رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور: 36-38].
اللهم هادي الضال، ومرشد التائه، وموضح السبيل، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 ربيع الأول 1431ﻫ
الموافق ﻟ: 24 فبراير 2010م
١- أخرجه مسلم (1/301) في «المساجد ومواضع الصلاة» رقم (671)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٢- فاللام في قوله: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ للتعليل الغائي، أي: لبيان الغاية والحكمة من خلق الثقلين، والعلة الغائية قد تقع وقد لا تقع بخلاف العلة الموجبة أو التامة، فيلزم وقوع المعلول لوجود العلة؛ لأنَّ العلة الموجبة ملازمة للمعلول وسابقة له.
٣- انظر: الإجماع على شرطية استقبال القبلة في صحة الصلاة -في الجملة- وإن اختلف في تفصيله في: «بداية المجتهد» لابن رشد: (1/111)، «المجموع» للنووي: (3/189).
٤- أخرجه البخاري في «الاستئذان» (3/271) باب من ردّ فقال: عليك السلام، ومسلم (1/186) في «الصلاة» رقم (397)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٥- أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنة» (3/519) باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم (1/608) في «الحج» رقم (1337)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٦- أخرجه البخاري في «تفسير القرآن» (2/470) باب قوله عزّ وجلّ ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾، ومسلم (1/375) في «صلاة المسافرين وقصرها» رقم (839)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
٧- أخرجه الترمذي في «الصلاة» (345) باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، من حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «الإرواء»: (1/323).
٨- أخرجه البخاري في «الصلاة» (1/106)، باب ما جاء في القبلة ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة، ومسلم (1/239) في «المساجد ومواضع الصلاة»، رقم (526)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
٩- انظر: «المغني» لابن قدامة: (1/438).
١٠- أخرجه البخاري في «المغازي» (2/373) باب غزوة أنمار، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
١١- أخرجه البخاري في «الصلاة» (1/105) باب التوجه نحو القبلة حيث كان، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وانظر: «المغني» لابن قدامة (1/432).
١٢- أخرجه البخاري في «الصلاة» (1/104) باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق، ومسلم (1/135) في «الطهارة» رقم (264)، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
١٣- أخرجه الترمذي في «الصلاة» (342) باب ما جاء ما بين المشرق والمغرب قبلة، وابن ماجه في «إقامة الصلاة» (1011) باب القبلة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء» (1/325).
١٤- «بداية المجتهد» لابن رشد: (1/111).
١٥- «شرح منتهى الإرادات» للبهوتي: (1/171).
١٦- «سبل السلام» للصنعاني: (1/278).
١٧- «المجموع» للنووي: (3/305).
١٨- «شرح الإرادات» للبهوتي: (1/172).
١٩- «الكافي» لابن عبد البر: (38).
٢٠- انظر: «فتح الباري» لابن رجب: (2/292).
٢١- «الكافي» لابن عبد البر: (39).
٢٢- «شرح الإرادات» للبهوتي: (1/171).
٢٣- قلت: ويكفيه أن يستدير اتجاه القبلة كما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
٢٤- «تهذيب المدونة» للبراذعي: (1/99).
٢٥- «الشرح الكبير» للدردير: (1/225).
٢٦- «بلغة السالك» للصاوي: (1/198).
٢٧- «الإحكام» لابن حزم (5/65).