مقال في محظورية القول بالتخلق بأسماء الله والتشبه بصفاته والاقتداء بأفعاله الشيخ محمد علي فركوس

في محظورية القول بالتخلق بأسماء الله والتشبه بصفاته والاقتداء بأفعاله
الأحد 11 سبتمبر 2016    الموافق لـ : 08 ذي الحجة 1437

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين:

     فلا يخفى أنّ أقوال الرّجال يحتجّ لها ولا يحتجّ بها، والعالم مهما علا علمه،وسما عمله، وظهر فضله فلا يمنعه من ارتكاب الخطإ، والوقوع في الزلل، لأنّ الله عزّ وجلّ لم يكتب العصمة لأحد من النّاس غير الأنبياء، وإنّما العصمة مضمونة في الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمّة، ويحصل الأمن من الزيغ والزلل بالرجوع إلى ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن زاوية التمثيل لهذا المعنى قول القائلين بمأمورية التخلّق بأسماء الله والتشبّه بصفاته والاقتداء بأفعاله سبحانه، ممّن تأثّروا -في الجملة- بكتب أبي حامد الغزالي(ت: 505ﻫ) (١) وخاصة "إحياء علوم الدين" أو بتمحلات المتكلمين، وأسوق نصين لعلمين من أهل المغرب والأندلس أحدهما لأبي عبد الله محمّد بن أحمد الشريف التلمساني المتوفى سنة( 771ﻫ) والآخر لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللّخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي المتوفى سنة(790ﻫ).

     قال الشريف التلمساني -رحمه الله-، في بعض فتاويه (٢) ما يلي: "...في النكاح خلافة ربَّانية في إيجاد الأشخاص الإنسانية، وذلك بالتخلّق باسمه الخالق، ولذلك ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنّه أفضل من التحلِّي بنوافل الطاعات، وروي أنّه في الفضل أكمل من حفظ الموجود كإنقاذ الهلكى، لأنّ الإيجاد أنفع من الإبقاء وأقوى في التشبّه بالخلق الإلهي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تخلّقوا بأخلاق الله" (٣)، وفي هذا زلَّت أحبار اليهود إذ قدحوا في النبوّة بعد الكمال تقليدًا لقدماء الفلاسفة في الرغبة عن النكاح نظرًا منهم إلى استغناء الإنسان عنه في بقائه الشخصي، قالوا بخلاف الطعام والشراب، وما شعروا أنّ الإيجاد أقوى في التشبّه بالخلق الإلهي من الإبقاء، ولسنا نعني بالإيجاد الحقيقة، بل أقوى درجات الإعداد تسمى إيجادًا مجازًا، أمّا الإيجاد الحقيقي فلا يتأتّى من الممكن، إذ لو خلى رسوم ذاته لم يستحقّ الوجود لما في الإمكان من الطبيعة العدمية فكيف تقيده".

    وقال الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات(٤) : "وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله، وخطاب الخلق به، ومعاملته لهم بالرِّفق والحسنى، من جعله عربيًّا يدخل تحت أفهامهم، مع أنّه المنزّه القديم، وكونه تتنزّل عليهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به، قبل النّظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات، وهذا نظر خارج عمّا تضمّنه القرآن من العلوم، ويتبيّن صحّة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد، وهو أصل التخلّق بصفات الله والاقتداء بأفعاله".

     ويمكن التعقيب على مسألة التخلّق بالصّفات، والتشبّه بالأسماء، والاقتداء بالأفعال التي تضمنها نصّا العلمين السابقين من وجوه:

       أوّلا: إنّ حديث "تخلّقوا بأخلاق الله" لا أصل له في شيء من كتب السنّة، ولا في"الجامع الكبير" للسيوطي، وإنّما أورده في"تأييد الحقيقة" دون عزو على ما أشار إليه الألباني (٥).

      ثانيا: إنّ أصل عبارة التخلّق بأسماء الله والتشبّه بصفاته غير سديدة، وهي منتزعة من قول الفلاسفة بالتشبّه بالإله على قدر الطاعة (٦)، وقد اقتفى أثرهم في محاولة التشبه بالإله أبو حامد الغزالي (٧)، فصنّف في تجسيد هذا المعنى فصلاً من كتابه الموسوم بـ: "المقصد الأسنى في شرح معاني الأسماء الحسنى"(٨) حيث عقد الفصل الرابع منه على التخلق والتحلي بمعاني صفات الله وأسمائه المتصورة في حقّ الآدميين، وأنَّ من لم يكن له حظّ من معاني أسماء الله فهو مبخوس الحظّ، نازل الدرجة (٩)، وقد ضمّنه التشبه في كلّ اسم من أسمائه التي يمكن للعبد أن يتّصف بها إلاّ لفظ الجلالة "الله" فإنّه لا يمكن أن يتصوّر فيه مشاركة، أمّا بقية أسمائه الحسنى فلم تسلم من ذلك بما فيها من الأسماء الحسنى المختصة به كالخالق والجبّار والمتكبّر والقدّوس والرزّاق وغيرها، الأمر الذي فتح باب المفسدة للصوفية الذين وجدوا مرتعًا لهم في القول بالحلول والاتّحاد ولزوم الاعتقاد بهما.

     ولاشكّ أنّ هذا القول غير صحيح خاصّة في الأسماء المختصّة به سبحانه كالخالق والمتكبِّر إلاّ بنوع من التكلّف والشطط، كما تكلّف الشريف التلمساني بجعل التخلّق باسمه الخالق في النكاح بأنّه خلافة ربّانية في إيجاد الأشخاص الإنسانية، ولا يخفى على عاقل أنّ هذا الخلق المزعوم موجود في البهائم وسائر الحيوانات، ولهذا  لمّا سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الاستدلالات العقلية في إدراك المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم؛ والمعلوم من عقيدتهم أنّهم ينفون الصفات بل حتّى الأسماء، فبأيِّ شيء يتخلّق العبد على زعمهم؟!.

      قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في معرض الردّ على الفلاسفة وأتباعهم: "ثمَّ من العجب أنّ القوم يدَّعون التوحيد، ويبالغون في نفي التشبيه، حتى نفوا الصّفات، وشنّعوا على أهل الكتاب لمّا جاء من الصّفات في التوراة وغيرها، وأنكروا قوله في التوراة: "إنَّا سنخلف بشرًا على صورتنا يشبهنا" وهم يدّعون أن أحدهم يجعل نفسه شبيهًا لله، فإن كان هذا اللّفظ يحتمل معنى صحيحًا عندهم لإمكان المتشابهة من وجه دون وجه، فالله أقدر على أن يفعل ذلك من الواحد منهم، وإن كان هذا ممتنعًا مطلقًا فما بالهم زعموا أنّهم يتشبّهون بالله تعالى؟!" (١٠).

ثالثا: اتفاق أهل السنة على أنّ القياس لا يجري في التوحيد إن أفضى إلى الإلحاد وتشبيه الخالق بالمخلوق وتعطيل أسماء الله وصفاته فإنَّ الله تعالى ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثّل بغيره، وإنّما يصحّ استعمال قياس الأولى سواء كان تمثيلاً أو شمولاً لئلاَّ يدخل الخالق والمخلوق تحت قضيَّة كلّيّة يستوي أفرادها كما قال تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ ﴾[النحل: 60]، أو يتماثلان في جزء من الأجزاء لقوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، مثل أن يعلم أنّ كلَّ كمال للممكن أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به وأنَّ كلَّ نقص وعيب في نفسه إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات فإنّه يجب نفيه عن الله تعالى بطريق الأولى (١١)، فالله سبحانه له الكمال المطلق من كل وجه، وليس كلّ ما اتّصف به الله يجوز أن يتّصف به الخلق، بل توجد صفات لله تعالى يجب إثباتها له، ويحرم على الخلق الاتِّصاف بها لاختصاصه بها كالإلهية والعظمة والكبرياء والجبروت ونحوها، وقد نهى الله عن التكبّر فقال صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربِّه : «الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدٌ مِنْهَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» (١٢). كما أنّه بالمقابل توجد صفات للخلق هي كمال لهم كالزواج والولد والذّل والتواضع والعبودية، والله سبحانه وتعالى منزَّهٌ عنها. وإنَّما الصفات التي يحبُّ الله من عباده أن يتَّصفوا بمقتضاها: كالعلم والرحمة والحلم والحكمة وغيرها (١٣).

      قال شيخ الإسلام -رحمه الله- : "ومنها ما يذمّ على الاتِّصاف به كالإلهية والتجبّر، والتّكبّر، وللعبد من الصفات التي يحمد عليها ويؤمر بها ما يمنع اتّصاف الربّ به: كالعبودية، والافتقار، والحاجة والسؤال، ونحو ذلك، وهو في كلِّ ذلك كماله في عبادته لله وحده، وغاية كماله أن يكون الله هو معبوده" (١٤).

رابعا: القول بالاقتداء بأفعال الله تعالى مع ما يترتَّب عليه من مفسدة الحلول والاتِّحاد مخالف لمقتضى أوامر الشرع، فقد دلَّت النصوص القرآنية على وجوب لزوم طريقة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم في العلم والاعتقاد والعمل والقول، وأنَّ ذلك هو ميزان الإيمان واليقين، وعليه فالعبد مأمور شرعًا بالاقتداء بالرّسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما لا يختصُّ به -لا بأفعال الله- وجعل الله طاعته من طاعة الله سبحانه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾[الأحزاب: 21] قال ابن كثير-رحمه الله- "هذه الآية أصل كبير في التأسِّي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله" (١٥)، وقال تعالى: ﴿فآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158] قال ابن تيمية- رحمه الله-: "وذلك لأنّ المتابعة أن يُفعل مثل ما فَعَل على الوجه الذي فَعَل، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة شُرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك" (١٦)، وبهذا يُعلم أنَّ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المأمور باتباعه والاقتداء بأفعاله شرعًا ودينًا إذ لا يمكن أن يتلقَّى الدين إلاَّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم، بل رتّب الهلاك على التقاعس عن اتِّباع سنّته صلى الله عليه وآله وسلَّم، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِِرَّةٌ (١٧)، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَك» (١٨).

هذا، والأصل في أسمائه سبحانه بعد إحصاء عددها، وفهم معانيها ومدلولها، دعاؤه بها، قال تعالى: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾[الأعراف: 180] لذلك ينبغي استعمال لفظ "الدّعاء" من لفظ "التشبّه" أو "التخلّق" أو "التعبّد" لأنَّ الدّعاء لفظ القرآن وهو مرتبتان: إحداهما: دعاء ثناء وعبادة، والثاني: دعاء طلب ومسألة، فلا يُثني عليه إلاَّ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ولا يُسأل إلاَّ بها، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: "ومن تأمَّل أدعية الرّسل ولاسيما خاتمهم وإمامهم وجدها مطابقة لهذا" (١٩).

ومن جهة أخرى، فالله سبحانه يحبُّ أسماءه وصفاته، ويحبُّ مقتضى صفاته، كما يحبُّ ظهور آثار أسمائه وصفاته في العبد فيما يحمد العبد على الاتِّصاف به: كالعلم والرَّحمة والحكمة وغير ذلك، قال ابن القيم -رحمه الله-: "...فإنَّه جميلٌ يحبُّ الجمال، عفوٌّ يحبُّ أهل العفو، كريمٌ يحبُّ أهل الكرم، عليمٌ يحبُّ أهل العلم، وترٌ يحبُّ أهل الوتر، قويٌّ والمؤمن القويُّ أحبّ إليه من الضعيف، صبور يحبُّ الصابرين، شكورٌ يحبُّ الشاكرين، وإذا كان سبحانه يحبُّ المتَّصفين بآثار صفاته، فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتِّصاف، فهذه المعيَّة الخاصَّة عبّر عنها بقوله: "كنت له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيِّدًا" (٢٠).

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العامين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليماً. 

 

أبو عبد المعز محمّد علي فركوس